هل يقوم الجيش اللبناني بإغلاق الحدود مع سوريا ويشتبك مع جيشها؟ وهل سيقوم بتطويق مخيمات اللاجئين الفلسطينيين؟ وهل سيصبح انخراط حزب الله في الصراع محتومًا؟هل تتفاقم حالة الانقسام في لبنان ويطالب البعض بالفيدرالية؟ هل تتحول حالة التجزئة في العالم العربي إلى حال تفتيت فسيفسائي؟ وأخيرًا هل المسؤولون العرب أغبياء أم جبناء أم عجزة؟ يمكن تلخيص موقف الولايات المتحدة من تقرير ديتليف ميليس بخمس كلمـات :إنه قرار اتهامي يدين سوريا.
هذه الكلمات الخمس قالها جورج بوش وكوندوليزا رايس وجون بولتون بتعبيرات مختلفة، لكن بمدلول واحد.

على هذا الأساس تطالب واشنطن المجتمع الدولي بإصدار حكم صارم ضد سوريا. فالإدانة، في عُرفها، تستوجب العقوبة. هذا ما تسعى إليه بحماسة في أروقة الأمم المتحدة .
ما مضمون العقوبة المطلوبة؟

لا يمكن تحديد مضمونها قبل معرفة ما تريده أميركـا من سوريا في هذه الآونة، وكيف تريدها أن تنفذ ما هو مطلوب منها.
ما تريده أميركا مـن سوريا بات معروفاً: الاندراج، شـأن بقية الدول العربية، في السياق الأميركي للمنطقة. هذا يعني تعاون دمشق مع أميركا لإخماد المقاومة العراقية، والتنسيق معها لتعطيل المقاومة الفلسطينية، والتكيّف معها لتجريد المقاومة اللبنانية (حزب الله) من السلاح.

سوريا بقيادة بشار الأسد ترفض، على ما يبدو، أن تكون مجرد أداة لتنفيذ الطلبات الثلاثة. هي مستعدة لمفاوضة أميركا في شأن هذه الطلبات على نحوٍ يمنع أذى المقاومات الثلاث عن مصالح أميركا في المنطقة شرط عدم الزج بسوريا، سياسيا وميدانيا، في حرب بوش المستمرة عليها بطلب من إسرائيل وبسكوت مدّوٍ من الأنظمة العربية المجاورة.

بشار الأسد وفريقه لا يستطيع الإذعان لطلبات بوش. إن فعل فَقَدَ شرعيته السياسية لدى الأكثرية الساحقة من الشعب السوري. فهي أكثرية وطنية العقيدة، قومية الهوى، سنيّة المذهب. باختصار، الأسد يرفض أن ينتحر وطنيا كرمى لعينّي بوش ومن يذهب مذهبه من صهاينة العرب والعجم.

يبدو أن واشنطن ستنحو في مواجهة سوريا وترويضها منحى مشابهاً لما فعلته مع العراق عشية الحرب. ستطلب إليها، عبر قرار من مجلس الأمن، التعاون مع لجنة التحقيق الدولية لجلاء " حقيقة" دور بعض كبار مسؤوليها في إغتيال الحريري. التعاون المطلوب عبّر عنه بفظاظة مندوبها في الأمم المتحدة جون بولتون : " لقد دقت ساعة الإعترافات الفعلية للحكومة السورية " !

أجل، مطلوب من سوريا أن تعترف بأن لكبار مسؤوليها، وعلى رأسهم مدير مخابراتها العسكرية وصهر رئيسها اللواء آصف شوكت، دوراً تخطيطيا وتنفيذيا في اغتيال الحريري.
تستطيع سوريا تفادي الاعتراف بـِ " ارتكاب " الجريمة ومضاعفاتها العقابية بالرضوخ لطلبات أميركا آنفة الذكر. إن فعلت، يحذف ميليس إلى الأبد من تقريره المقبل الإشارة إلى أسماء كبار المسؤولين السوريين الذين حذف أسماءهم برشاقةِ بهلوانٍ في تقريره الأخير مع أنها لم تنطلِ على إدراك الإعلاميين النابهين. بعدها يأخذ التحقيق مجراه، لبنانيا ودولياً، " أشهراً وربما سنوات"، كما جاء في تقرير ميليس نفسه في 2005/10/21 وأمام مجلس الأمن في جلسته الأخيرة.

كيف يُراد لسوريا أن " تعترف "؟
بأن ترضخ لقرار مجلس الأمن المرتقب والقاضي بتمكين ميليس ومحققيه الدوليين من استجواب المسؤولين السوريين المشتبه بهم خارج سوريا ومن دون حضور محامين. بل أن القرار قد يتضمن الطلب إلى الرئيس السوري السماح لميليس باستجوابه شخصياً في إطار مقابلة تُعطى طابعا بروتوكوليا!

لا تبدو دمشق في وارد قبول هذه الإجراءات شبه العقابية، فماذا تراه يكون رد فعل أميركا ومجلس الأمن السائر في ركابها؟

قد تضغط أميركا، تدريجيا ،لاتخاذ قرارات متصاعدة في لهجتها ومضمونها في مجلس الأمن قبل اتخاذ قرار أخير وصارم في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، أي إجازة فرض عقوبات ضد سوريا. وفي فترة التصعيد المتوقعة، تأمل واشنطن أن يستخلص أركان النظام السوري نتائج المواجهة المتصاعدة، فيرضخوا لطلبها بتغيير " سلوكيتهم " تجاه سياستها في المنطقة أو يقرروا التخلي عن بشار الأسد وفريقه كفدية لا بد منها لإنقاذ النظام.

يستبعد كثيرون هذا السيناريو لسبب بسيط هو أن أركان النظام السوري، بكل تلاوينهم، يشعرون بأن لا فدية صغيرة أو كبيرة يمكن أن ترضي أميركا. فقرار إسقاط النظام، بطريقة أو بأخرى، قد اتخذ في واشنطن، وأن لا سبيل إلى النجــاة – على صعوبتها – إلاّ بالمواجهة. ذلك أن السقوط ، إذا كان محتماً، أفضل أن يكون وطنيا وشريفا في مواجهة مع أميركا وإسرائيل من أن يكون مدانا ودنيئا أمام ضغوطهما السياسية والاقتصادية وربما العسكرية.

غيـر أن معظم المطلعين والمراقبين لا يعتقدون أن الأمور ستصل إلى هذا الحدّ. ثمة هامش من حرية الحركة والمناورة ما زال متاحا، في رأيهم، لسوريا وان تسوية نزاعها مع أميركا ما زالت ممكنة في إطار ما يسمى " تغيير السلوكية ".

لكن، ماذا لو تعذّرت التسوية ووجدت سوريا نفسها أمام قرار لمجلس الأمن متخذٍ في إطار الفصل السابع ويقضي، مثلا، بفرض عقوبات عليها من طراز حصارٍ محدود النطاق ومتوسع تدريجيا، أو على شاكلة إغلاق لحدودها مع الدول المجاورة وفي مقدمها لبنان؟

إن قراراً بهذه الخطورة يقتضي بالتأكيد ربط تنفيذ القرار 1559 القاضي بتجريد المنظمات اللبنانية (حزب الله) وغير اللبنانية (الفلسطينية) من السلاح، بالقرار 1595 القاضي بتأليف لجنة دولية للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ومتابعة تنفيذه في وجه سوريا. ذلك أن إغلاق الحدود اللبنانية – السورية سيكون تدبيراً ضرورياً، في رأي أميركا (وفرنسا ؟)، من أجل تشديد الضغط على سوريا لتغيير سلوكيتها أو، ربما، لتغيير النظام. كذلك فإن بقاء تلك الحدود مفتوحة سيكون حاجة ضرورية جداً، في رأي سوريا، لتموينها بالمواد الحياتية وبالإمداد اللوجستي الأمر الذي يعني مبادرتها وحلفاءها إلى إبقاء الحدود مفتوحة مهما كلف الأمر. هذا سيؤدي بالضرورة إلى الاشتباك مع قوات الأمن اللبنانية التي سيعهد إليها، على الأرجح، تنفيذ مهمة الإغلاق قبل أن يلجأ مجلس الأمن – وربما أميركا منفردة أو بالتعاون مع إسرائيل – إلى أخذ هذه المهمة على عاتقه أو على عاتقها.

غير أن السيناريو الأخطر هو ذلك الذي يُنتظر أن تنصح أميركا الحكومة اللبنانية باعتماده لتبرير إغلاق الحدود. في هذا الإطار، يمكن تنظيم حملة إعلامية واسعة تُظهر للبنانيين أن ثمة كميـات كبيرة من الأسلحة يجري تهريبها، عبر الحدود، إلى المخيمات الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى يقترن ذلك بمناوشات بين القوى الفلسطينية وغير الفلسطينية داخل المخيمات، وبينها وبين قوى أخرى خارجها (كما حصل مؤخرا في محلة التعمير في صيدا) الأمر الذي يستوجب تطويق المخيمات لمنع تطور الاشتباكات إلى حرب أهلية أو ما يشبهها.

إذا تطوّر الأمر على هذا النحو، لا سمح الله، فإن انخراط حزب الله وحلفائه في الصراع يصبح محتوما، ليس لأنه " يرفض أي قرار بفرض عقوبات على سوريا " فحسب ، كما جاء في بيانه المشترك مع حركة أمل، بل أيضا لأن إغلاق الحدود مع سوريا يقطع اتصاله بعمقه القومي والإسلامي الاستراتيجي، كما يشغله ميدانيا بحماية نفسه من تداعيات الاشتباكات وعواقبها التي ستدور حول المخيمات الفلسطينية الموجودة داخل بيئة الحزب، لا سيما في بيروت وضاحيتها الجنوبية ومنطقتي الجنوب والبقاع.

إن أميركا وإسرائيل لا تكترثان لما يمكن أن يجرّه هذا السيناريو الخطير على سوريا ولبنان من خسائر بشرية واقتصادية، ناهيك بالتداعيات السياسية المؤدية إلى تفاقم حال الانقسام وتعزيز مطالبة البعض، نتيجة ذلك كله، بالفدرالية كما حصل في العراق. فإدارة بوش تحبذ جهارا " الفوضى الخلاقة " وتعتبرها، في سياق تحقيق أغراضها الإستراتيجية في الشرق الأوسط، بديلا من السيطرة العسكرية التي ثبت تعثرها، إن لم يكن تعذرها، في العراق وأفغانستان.

لكن، أليس يُفترض بالدول العربية المجاورة، وفي مقدمها مصر والسعودية، أن تكترث وتحاول، قدر طاقتها، ثني أميركـا عن مشروعها المدمّر؟

عربُ القرن العشرين خدعهم قادة بريطانيا وفرنسا بشعارات الحرية والاستقلال ليقاتلوا الترك إلى جانبهم في الحرب العالمية الأولى، فكانت النتيجة تكريس حال التجزئــة بإتفــاق سايكس – بيكو. اليوم تخدعهم أميركا وفرنسا بشعارات محاربة الإرهاب وبالحرية والديمقراطية لتحويل حال التجزئة إلى حال تفتيت فسيفسائي تشكّل تجسيدا حيا لمطلب إسرائيل الدائم توفير حدود آمنة لها ابد الدهر.
هل المسؤولون العرب أغبياء أم جبناء أم عجزة؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية