الأصل في مفهوم العقوبات بكل اشكالها السماوية منها والوضعية أنها وجدت جزاءً لمخالفات ارتكبها المذنبون والعصاة والخارجون على القوانين الشرعية أيّاً كانت . وفي التشريع الإسلامي لاتزر وازرة وزر أخرى، وهي قاعدة شرعية خالدة شكلت أساسًا لكثير من القوانين الجزائية التي ترفض أن يؤخذ البريء بجريرة المذنب، والطائع بذنب العاصي .

إلا أن الحديث عن العقوبات التي يفرضها الاحتلال أيّاً كانت على شعوب البلدان التي غزاها واحتلها بقوة السلاح رغمًا عنها هو أمر آخر، كون وجوده على أراضيها غير شرعي ومخالفا لكل القوانين السماوية والانسانية التي أباحت مقاومة هذا الاحتلال حتى زواله. وهكذا فان أية عقوبة ينزلها هذا الاحتلال غير مشروعة وظالمة لا مبرر لها. فكيف إذا كانت عقوبات جماعية لا تفرق بين أي من فئات الشعب كباره وصغاره، شيوخه وأطفاله، نسائه ورجاله؟

بداية ، باعتباري فلسطينيا لي من العمر والذاكرة والتجربة ما يمكنني أن أتناول قلمي وأملي عليه ولو فصلا من فصول معاناة شعبي جراء الاحتلال الذي اوشك أن ينهي عقده الرابع في وطني، دون أن تلوح في الافق ادنى بارقة امل لنهايته ورحيله .

وانوه إلى أنني لن أتطرق إلى موضوعان اغتصاب الأرض وإقامة المستوطنات عليها، أو توسيعها، أو شق الطرق الالتفافية، وهي الطرق الخاصة بتحرك المستوطنين وتنقلهم، ولا إلى التحكم بمصادر الثروات الطبيعية من ماء وتراب وحجارة وهواء، ولا إلى المسلسل المأساوي الذي افرزه جدار الفصل العنصري على كافة الصعد الانسانية والاجتماعية والاقتصادية. كلا لن اتناول هذه الموضوعات في هذا السياق، كون كل موضوع منها يتطلب بحثا مستقلا نظرا لجسامته وخطورة نتائجه .

إن الممارسات والفعاليات القمعية الاخرى التي افرزها الاحتلال الاسرائيلي وما زال يفرزها كثيرة جدا تكاد لا تحصى، إلا أنني هنا سوف اتناول العقوبات الجماعية تحديدا، وهي تلك العقوبات التي وسع الاحتلال مساحتها افقيا وراسيا، وتفنن على مدار اربعة عقود في تطبيقها، لظنه وتوهمه انها سلاح من اسلحته الاكثر شراسة وفتكا على الصعيدين المادي والمعنوي، والأقدر على تحقيق اهدافه في الهيمنة والسيطرة، والأخطر من هذا وذاك انها وسيلة انتقام وتشف وشعور بالقدرة على التصدي للتحديات التي يواجهها باي ثمن .

إن أول هذه الفعاليات التي تنتمي الى مجموعة العقوبات الجماعية هي الاعتداء المباشر على حرية التنقل والتحرك، ونعني بها حظر التجوال الذي يفرض في العادة على المدن او القرى أو المخيمات، وفي أحيان عديدة فرض على كافة الاراضي الفلسطينية. وإذا ما أحصيت أيام الحظر هذه فانها ولا شك تشكل نسبة ملحوظة من اعوام الاجندات السنوية للعقود الاربعة التي هي عمر الاحتلال الاسرائيلي .

والى جانب هذه الاعوام الضائعة من اعمار الفلسطينيين، فان معاناتهم جراء حبسهم داخل جدران منازلهم لا يمكن وصفها . ومثالا لا حصرا نفاد حليب الاطفال والدواء ، مشكلات علاج المرضى والولادات ودفن الموتى، علاوة على قطع ارزاق الناس بشل الحياة الاقتصادية. إن هذه الأمثلة وغيرها تصبح هموما انسانية يصعب على الكثيرين ايجاد حلول لها ، والنتيجة تعميق المأساة الفلسطينية .

واستكمالا ، وهل ينسى الانسان الفلسطيني طوابير الانتظار امام شبابيك التصاريح، والحواجز العسكرية بكل اشكالها الثابتة والمتحركة ، ومنع استخدام وسائط النقل ، والحصارات ، والاغلاقات ، والاطواق الامنية ؟ إنها أمثلة لعقوبات جماعية تفرز المزيد من الاحزان والهموم والاثقال وامتهان الكرامات الانسانية وإذلالها، عدا عن كونها عاملا خطيرا في احداث اكبر قدر من الخسائر الاقتصادية والنفقات التي يعجز الكثيرون عن مواجهتها .

وهنا لا بد من التركيز على الحواجز العسكرية المزروعة في طول البلاد وعرضها، والتي شكلت على مدار الايام الهم الاكبر للفلسطينيين فإلى جانب كونها عامل اعاقة من الدرجة الأولى، وامتهان وإذلال للكرامة الإنسانية، شكلت بؤر هلاك للارواح البشرية. فكم من مريض قضى نحبه وهو في انتظار السماح له بالمرور للعلاج ! وكم من امرأة حامل اجهضت ! وكم من شاب اعتدي عليه بالضرب المبرح ! وكم من طابور بشري ترك ساعات وساعات تحرقه الشمس باشعتها اللاهبة ! وكم من طابور آخر ترك فريسة للمطر والريح والبرد وسط صراخ الاطفال وعويلهم ! وكم مرة ومرة اغلقت هذه الحواجز في وجوه قاصديها، فعادوا أدراجهم تفترسهم مشاعر الاحباط والقهر والخسران ! إنها الحواجز، وما أدراك ما الحواجز ؟ وهل يعرفها الا من اكتوى بنار جحيمها ؟ وهل غير الفلسطينيين في هذا القرن الحادي والعشرين ضحايا لها ؟ .

وليت العقوبات الجماعية تقف عند هذه الحدود فثمة عقوبة اخرى وليست الاخيرة في جعبة الاحتلال الاسرائيلي. إنها الغارات الوهمية التي تشنها طائراتها الحربية المقاتلة؛ حيث تخترق الحاجز الصوتي فتحدث اصوات انفجارات تفوق في حدتها وقوتها دوي انفجارات الصواريخ والمتفجرات .

لقد أدرك الشعب الفلسطيني ان هذه الغارات الوهمية لها اهداف متعددة . فهي من ناحية عامل ترويع وترعيب وبخاصة للأطفال، وهي من ناحية اخرى وسيلة هدم وتدمير، ذلك أنها تحطم زجاج الابنية بكافة أشكالها، إضافة إلى ما تحدثه من شروخ وتشققات في اسطحتها وزعزعة لأساساتها. وهي في كل الحالات عامل الحاق اذى لامبرر له، وتخسير متعمد، واعتداء على اناس آمنين .

إن الحديث عن الاحتلال ذو شجون واشجان وما العقوبات الجماعية التي ينزلها على الشعب الفلسطيني الا جزء يسير من مساحة معاناة هذا الشعب والتي يصر هذا الاحتلال على استخدامها كآليات قهر وقمع واخضاع وتركيع. إلا انه وبرغم ما تحدثه هذه العقوبات من آلام ومعاناة واحزان مستدامة، فإنها لم تستطع ولو لمرة واحدة ان تجعل هذا الشعب ان يحيد عن طريق نضالاته لتحقيق اهدافه المشروعة في التحرر والحرية والسيادة واستحقاقات قضيته الأولى، وحقه في تحقيق مصيره .
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية