للمرة الثانية في أقل من شهرين، قام أعداء صدام حسين يوم الثلاثاء الماضي باغتيال أحد أعضاء فريق الدفاع عنه وعن رفاقه الموقوفين. انه المحامي عادل محمد عباس. الضحية الأولى لأعداء صدام كان المحامي سعدون الجنابي وكيل عواد أحمد البندر، القاضي السابق في محكمة الثورة ونائب رئيس ديوان الرئيس، الذي اغتيل في 19 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بعد خطفه من مكتبه في بغداد.

عصام غزواي، الناطق باسم فريق الدفاع عن صدام ورفاقه، أكدّ لأجهزة الإعلام "إستحالة إجراء محاكمة نزيهة من دون توفير الأمن للشهود والقضاة والمحامين على قدم المساواة "، في حين قالت الناطقة باسم " منظمة العفو الدولية " في لندن نيكول كوبري أن " سلامة هؤلاء الأشخاص مهمة جداً إذا كانت المحاكمة ستستمر، وان توفير الحماية لهم من مسؤولية الحكومة العراقية والجيش الأميركي ".

بات واضحاً أن الحكومة العراقية والجيش الأمريكي غير قادرين على حماية أيٍّ من هؤلاء. فالعراق يعيش حالة حرب ملتبسة تقع بين منزلتي حرب التحرير والحرب الأهلية. ولا يغيّر في الأمر شيئاً إصرار الحكومة العراقية وقيادة قوات الاحتلال على وصف المسلحين الذين يقاومون قوات الحكومة والجيوش الأجنبية التي تؤازرها بالمتمردين. فالنتيجة تبقى هي هي: عجز متزايد عن فرض الأمن والنظام والسلامة العامة.

في وضع شديد الالتباس والاضطراب كهذا السائد في العراق، لا يكفي أن يتساءل المرء عمّا إذا كانت محكمة الجنايات الخاصة الناظرة في قضية صدام ورفاقه تتمتع بأية شرعية في ظل الاحتلال . السؤال الأكثر إلحاحا هو: هل يمكن للمحاكمة أن تستمر كما قالت الناطقة باسم " منظمة العفو الدولية " ؟

تبدو الحكومة العراقية غير معنية بالجواب عن هذا السؤال. السبب؟ لأنه سبق لمعظم أطرافها ومن يقف وراءهم أن حكموا على صدام قبل إسقاطه، وهم يستعجلون الآن إعدامه، بشكل أو بآخر، حتى قبل انتهاء المحاكمة!

الحقيقة أن إدارة بوش هي المعنية بالجواب. ذلك أن جميع الأسباب والتبريرات التي قدمتها لشن الحرب على العراق سقطت، ولم يبقَ لديها إلا التمسك بالسبب الوحيد الذي يتصف بقدر من المشروعية لدى بعض الأوساط العراقية وهو إزالة حكم الاستبداد ومحاكمة مسؤوليه. غير أن المحاكمة تتطلب، مع ذلك، غطاء عراقيًا الأمر الذي يستوجب وجود محكمة يتولى قضاتها، باسم الشعب العراقي، محاكمة المسؤولين السابقين. وعليه، فإن ما يحدث في واقع الأمر هو أن الحكومة العراقية تقوم، عبر قضاتها، بمحاكمة صدام ورفاقه لحساب أمريكا. إنها محاكمة بالواسطة لا أكثر ولا أقل.

فالحكومة لا يهمها من أمر المحاكمة إلاّ صدور قرار بإعدام الرئيس العراقي الأسبق بالسرعة القصوى. ولعلها تفضل تصفية صدام قبل صدور الحكـم لتتفادى أية مسؤولية سياسية قد تترتب على تنفيذه على أيدي أجهزتها وموظفيها. وفي هذه الأثناء فإن عملية تصفية المحامين والقضاة والشهود مستمر ويتحمل مسؤوليتها الأمريكيون وحدهم. ما المخرج من هذا المأزق؟

فريق الدفاع عن صدام ورفاقه يطالب، منذ مباشرة المحكمة مهامها، نقل المحاكمة إلى خارج العراق. هذا الطلب يفتقر إلى أسباب قانونية كون المحكمة عراقية وليست دولية. حتى لو أمكن تشريع مسألة نقل المحاكمة إلى خارج العراق لحماية القضاة والمحامين والشهود، فإن الأمر يلحق أذى بالغا بالحكومة العراقية وبإدارة بوش إذ يظهرهما بمظهر العاجز عن توفير الأمن والنظام.

لعل المخرج الأقل إساءة لسمعة الدولة العظمى هو جعل مسألة محاكمة صدام جزءاً من التسوية التي تدفع إدارة بوش وبعض الحكومات العربية العراقيين إلى بحثها والتوصل إليها في المؤتمر الوطني الذي يسعى أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى إلى عقده في القاهرة مطلع العام القادم. ذلك أن للمصالحة التي يتوخاها المصلحون أثماناً لن يصعب على أطراف النزاع العراقيين دفعها بطيبة خاطر.

فأعداء صدام في الحكومة والمعارضة فازوا بالجائزة الكبرى وهي إزاحة الرئيس العراقي الأسبق والحلول محله، وأنصار صدام الخلّص فقدوا أملهم بإعادته إلى السلطة، فلا يجدون غضاضة في تكريس إقصائه عنها وتخليصه من الموت ليعيش بقية حياته منفيا.

في لبنان تبدو القضية أقل تعقيداً. ذلك أن النظام السياسي بقي قائما رغم اهتزازه كثيراً غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ليس ثمة مسؤول سياسي واحد أو مجموعة سياسيين يعتبرهم ذوو الحريري وأنصاره مسؤولين بصورة مباشرة ومحددة عن اقتراف جريمة القتل. ثم أن التحقيق في الجريمة ما زال مستمرًا، وبعد انتهائه سيصار إلى تحديد المحكمة التي ستنتظر في القضية وما إذا كانت لبنانية أم دولية.

مع ذلك، ثمة مفارقة تكتنف هذه الجريمة النكراء. فالذين يطلبون معرفة الحقيقة ويطالبون بمعاقبة قتلة الحريري ويبدون حماسة غير عادية لاستعجال التحقيق وإدانة المشتبه في ضلوعهم بارتكاب الجريمة كانوا، لبضعة اشهر خلت، أصدقاء وشركاء وحلفاء الأشخاص المشتبه فيهم، لا سيما السوريين منهم!

لنتصوّر ماذا سيحدث إذا ما قيض للجنة التحقيق الدولية وقاضي التحقيق العدلي اللبناني أن يتوصلا إلى تحديد مخططي هذه الجريمة النكراء والآمرين بارتكابها والمنفذين، وأن بينهم بعض المشتبه فيهم من الموقوفين حاليا أو مستقبلا. ذلك أن هؤلاء سيعمدون، في سياق الدفاع عن أنفسهم، إلى كشف خفايا علاقاتهم السياسية والمالية، المشروعة وغير المشروعة، بغلاة طالبي معرفة الحقيقة ومعاقبة قتلة الرئيس الراحل. ويقول مطلعون ومقربون من هؤلاء الموقوفــين إن " الخفايا والخبايا " المراد كشفها خطيرة للغاية وتدين بمفاعيلها كثيراً من أفراد الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ أكثر من نصف قرن. ومتى علمنا أن هذه الطبقة السياسية هي قوام النظام الطائفي الفاسد، فإن احتمال انكشافها الصاعق يعّرض النظام نفسه للانهيار.

إن أحدا خارج الطبقة السياسية لا يهمه بقاء النظام بل إن معارضيها ومعارضيه – وهم كثر - يحبذون إجراء محاكمة عادلة للمتهمين بارتكاب الجريمة النكراء لإصابة هدفين برمية واحدة: تجريم الجناة ومعاقبتهم، وكشف الخفايا والخبايا لإدانة سائر المرتكبين والفاسدين من شركائهم السياسيين الذين ستفضحهم المحاكمة المرتقبة.

إن احتمال انكشاف الطبقة السياسية بجناحيها الموالي والمعارض وإدانة المتورطين من أشخاصها يحمل الكثير من المطلعين والمراقبين على الاعتقاد بأن أركان الطبقة السياسية أذكى وأشطر من أن يسمحوا لأعداء النظام والمتضررين منه بإسقاطه من طريق إدانة بعض أركان الطبقة إياها الضالعين بقليل أو كثير في جريمة اغتيال الحريري أو المتورطين بعمليات سياسية ومعاملات مالية غير مشروعة مع المتهمين بارتكابها أو المشتبه فيهم بحق أو بغير حق .

مؤدى هذا الاعتقاد أن المتورطين سيسعون إلى تطويق ذيول المحاكمة سلفا بحصرها بالمرتكبين الصغار دون الكبار ، أي بالمتهمين الذين لا حول لهم ولا طول ولا خفايا لديهم ولا خبايا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ...

أليس لافتا أن كوفي عنان جاء إلى القاهرة ليعلن أشياء كثيرة بينها انه يفضل أن تنظر في جريمة اغتيال الحريري محكمة لبنانية ؟

ترى من القائل أن لبنان نفسه " تسوية تاريخية " ؟!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية