حين سقط النظام الصدامي المجرم استبشر العراقيون خيرًا بزوال نظام دموي حكمهم لأكثر من ثلاثة عقود بالحديد والنار، وهيأوا أنفسهم لاستقبال عهد جديد ينسخ من تاريخ العراق صفحة الآلام المزعجة تلك، لاسيما أن الدولة العظمى في العالم التي تحتل العراق تعهّدت ببناء نموذج عراقي ديموقراطي متميز تصان فيه حقوق الإنسان ويتمتع فيه المواطن العراقي بحياة حرة كريمة ليكون مثالا يحتذى به في الشرق الأوسط الجديد.
وهذا التعهد يحظى بأهمية كبيرة متاعظمة بعد أن سقطت ذريعة احتلال العراق بدعوى نزع أسلحة الدمار الشامل، وباتت ذريعة نشر الديموقراطية وإزالة الطغيان والاستبداد الذريعة الأساس التي يستند اليها الخطاب الأميركي في المحافل الدولية والاقليمية، لاضفاء نوع من الشرعية على ما قام به في العراق,
ولذا، فإن فضيحة تعذيب معتقل الجادرية تلقي بمزيد من الضغوط على إدارة الرئيس بوش، إذ ان الممارسات الدموية التي كانت سائدة في العهد البائد لا تزال مستمرة، كما هي في العهد الجديد، كل ما في الأمر ان الجلاد القديم حل محله جلاد جديد يلف يديه بقفازين من حرير! ويحق للأميركيين ان يتساءلوا بجدية عن حقيقة انجازاته في العراق المحطم أمنيا وخدماتيا بعد مرور عامين ونصف العام، وهل تستحق هذه الانجازات المتواضعة جدًا هذه الفاتورة الضخمة كلها من تكلفة مالية وخسائر عسكرية وتضحيات بشرية وإفلاس اعلامي مكشوف؟!
إذ لا تزال الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية العراقية تمارس الأساليب ذاتها التي كانت سائدة أيام صدام، فهناك أكثر من ستة معتقلات تتم فيها عمليات تعذيب تستعمل فيها الأدوات نفسها التي كان يستعملها جلاوزة صدام! ويقع معتقل الجادرية بالقرب من المقر الرسمي للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي ينتمي اليه وزير الداخلية العراقي بيان جبر صولاغ الذي كان قائد ذراعه العسكرية المسماة «فيلق بدر» وهي الميلشيا التي تم ضمها الى وزارة الداخلية واهتمت بتصفية العشرات من معارضيها، إذ كان يتم اقتياد الضحايا من منازلهم ويتم اعدامهم على الطريقة الصدامية بطلقة في الرأس ثم يقذف بهم في الصحراء، وقد ذكر المراقبون عن اعداد من عربات وزارة الداخلية لا تزال ترفع العلم الخاص بالميليشيا المذكورة جهارا نهارا!
والمضحك فعلا في هذه القضية المأسوية أن هادي العامري رئيس تلك المنظمة اتهم ازلام صدام بالقيام بعمليات التعذيب إذ انهم نجحوا - على حد قوله - في التسلل إلى أجهزة الأمن! ويبدو أن مسلسل المضحكات لن ينقطع، فمن كانوا يطنطنون لربع قرن بشعار (الموت لأميركا) لا يتحرجون من وضع أيديهم في يدها والتعاون معها لتحقيق أهدافهم الخاصة ولتذهب أكذوبة الشيطان الأكبر الى الجحيم!
ترى ما الذي بقي من مآسي صدام مما لم يتطهر منه العهد الجديد بعد؟ فحتى الاسلحة الكيميائية المحظورة تم استعمالها في العراق، فقد تم استخدام الفوسفور الأبيض في معارك الفلوجة العام الماضي، كما كشفت ذلك تقارير إعلامية ايطالية، وتذيب هذه المادة المحرمة دوليا جلود الضحايا ولحومهم دون العظام بينما تظل ثيابهم سليمة غير محترقة، فلك الله يا عراق!