من نافلة القول التذكير بأهمية الكلمة ودورها في تكوين الرأي العام للأمة، لاسيّما تلك الكلمة السيارة التي تستطيع النفوذ إلى قلوب الجماهير، وحسبك بالمقالة الصحافية دليلاً على ما تنتهض به الكلمة الشجاعة من عبء أداء الأمانة الثقيلة، وفي هذه الأيام الحالكة التي تمر بنا تتضاعف تبعة الكلمة وتتعاظم مسؤولية كاتبيها. ومع تحول الكتابة عند كثيرين إلى حبل لاقتناص المطامع الشخصية، من تلميع للذات واستدرار للرزق، فليس بغريب أن تنحرف الكلمة عن الغاية النبيلة التي ما كان لها أن تحيد عنها لولا غلبة الأثرة الذاتية وغياب النظرة العميقة الواعية.

ومع ذلك، فإن هذا الضرب من الكتابة يبقى أقل ضررًا وأخف وطأة من كتابات تسير في الإتجاه المعاكس، حين تتبنى مواقف استفزازية تتناقض مع ثوابت الأمة ووحدة بنيانها، بل إنها تأخذ موقفا متطرفا لا يتماهى حتى مع مواقف المنصفين من الغربيين، والشواهد على ذلك كثيرة، فالمفرج عنهم أخيرًا من معتقل غوانتانامو وجهت إليهم سهام التهويل والتحريض رغم أنهم اخضعوا من قبل لتحقيق مكثف من قبل الإدارة الأمريكية التي لم تجد دليلا واحدا يؤكد تورطهم بتهمة الإرهاب وفق المفهوم الأمريكي، وهو الأمر الذي دعاها للإفراج عنهم، غير أن بعض الكتًاب استكثروا عليهم ذلك وطالبوا بحبسهم وإبقائهم رهن الاعتقال، فصار بذلك ملكيًا أكثر من الملك نفسه!

ولئن كان من المفترض في حملة الأقلام أن يكونوا أكثر الناس حرصا على تمتع الإعلاميين بحرية التعبير، فانك لن تفاجأ حين تقرأ كتابات تمجد مثلا اعتقال تيسير علوني مراسل قناة الجزيرة وتستجوبه بدعوى مكافحة الإرهاب، بينما تجد المؤسسات الإعلامية الغربية تستنكر احتجازه وتعدّه تعديا صارخا على حرية الإعلاميين في أداء دورهم وحائلا عائقا دون توافر مقومات الحياد والنزاهة في رسم صورة حقيقية للحدث.

ولا يقف مسلسل العجائب عند هذا الحد، فان يكتب كاتب عربي مقالة ينكر فيها عروبة القدس، زاعما أن ذلك خطأ تاريخي يجب على العرب تصحيحه، فذاك أمر لا ينبغي التعجّب منه في ظل التقلبات التي نعيشها هذه الأيام، حتى وان كان ذلك مصادمًا لقرارات الأمم المتحدة في تقسيم فلسطين التي جعلت القدس الشرقية ضمن القسم العربي، والأغرب من هذا أن تعجز أربعة عشر قرنا عن إقناع صاحب هذا الرأي (المعجزة) بعروبة القدس، بينما تكفيه أربعة قرون فقط لإثبات أميركية الولايات المتحدة ونسخ أصلها الهندي الأحمر!.

ومن المؤسف حقًا أن تنضم هذه الأقلام إلى جوقة فحيح الأفاعي التي تسعى إلى التحريض على سورية متناغمة بذلك مع الضغوط الأميركية المفروضة عليها، بينما يترفع من لهم خصومات قديمة مع النظام السوري عن الانجرار خلف الحملة الأميركية، فحتى الخصومة يسوسها قانون شرف لا يعرف معياره ولا يفقه أحكامه إلا الشرفاء الأحرار!

إن الأمة المبتلاة لا ينقصها فعلا في هذه الظروف الخانقة سوى هذا النوع من الكتاب الذين يتدثرون بشعار حرية الكلمة ليعملوا من ورائه على وأد معاني الحرية كلها في نفوس أبنائها، فبئس الرقيق وبئس المسترق!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية