لقد ثارت ثائرة السلطة الوطنية عند تصريح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي أعلن فيه بأن حماس لن تجدد التهدئة مع نهاية العام. وانبرى العديد من أركان السلطة للرد على هذا التصريح بأنه غير "مسؤول" وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس وزاد على ذلك بأنه يجب أن تنتهي جميع المظاهر المسلحة، وطالب جميع فصائل المقاومة الالتزام بالتهدئة في نفس الوقت تقوم فيه قوات الاحتلال بحصار وإغلاق مدينة جنين.
وانبرت واشنطن إلى استنكار تصريح حماس مع العلم أن الكيان الصهيوني لم ينبس ببنت شفة عن الموضوع شيئا لأنه ليس معنيا بالتهدئة والدليل هو استمراره في الاغتيالات والانتهاكات والتنكيل والإذلال اليومي للمواطن الفلسطيني.
وهنا لا بد من وقفة قصيرة ونظرة تحليلية لعام من التهدئة كان عليها الإجماع الوطني في اتفاق القاهرة شريطة أن يلتزم بها الطرف الآخر. فيحق للمواطن الفلسطيني أن يسأل الآن ماذا قدمت له التهدئة على جميع الأصعدة: الصعيد الأمني والمعيشي والسياسي؟
في ظل التهدئة المزعومة، ولغت وتولغ ولا زالت تولغ قوات الاحتلال الصهيوني في الدم الفلسطيني وتواصل انتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال اقترافها للمزيد من الانتهاكات الخطرة والجسيمة وجرائم الحرب.
وتبعا لتقارير منظمات حقوق الإنسان، قامت قوات الاحتلال باغتيال واعتقال وإصابة وتجريف أراضي وتدمير منازل واقتلاع أشجار. ففي النصف الأول من عام 2005 أي من الأول من كانون الثاني وحتى الثلاثين من حزيران، بلغ عدد الشهداء 92 شهيدا و67 معتقلا. وبلغ عدد المنازل المدمرة 28 منزلا وتم تجريف 31 أرضا زراعية (عن مركز الميزان). ولقد تواصلت هذه الاعتداءات منذ الاندحار من قطاع غزة وتزايدت الانتهاكات بصورة ملحوظة.
فحسب التقارير الأسبوعية الصادرة عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فقد بلغ عدد الشهداء في الثلاثة الأشهر الأخيرة وحتى السابع من كانون الأول 58 شهيدا من بينهم 8 أطفال ونساء وبلغ عدد المعتقلين 836 معتقلا من بينهم 40 طفلا وفتاة وبلغ عدد الإصابات 145 إصابة من بينها 45 طفلا. ويزيد على ذلك شهداء حركة الجهاد الإسلامي وشهداء كتائب الأقصى وحركة حماس والصيادين في الأسبوعين المنصرمين. ولم يتوقف هذا المسلسل الإجرامي يوما واحدا، ففي كل يوم هناك شهداء وجرحى ومعتقلون. ناهيك عن العديد من أعمال التوغل والاقتحامات لمعظم مدن وبلدات الضفة الغربية، قامت قوات الاحتلال من خلالها باعتقال العشرات من الفلسطينيين والاستيلاء على منازلهم السكنية والتنكيل بالمدنيين منهم. وواصلت قضم المزيد من أراضي المدنيين الفلسطينيين، عبر تجريف أراضيهم ومصادرتها وهدم منازلهم لصالح أعمالها الاستيطانية، ولصالح أعمال البناء في جدار "الفصل العنصري" الذي بات يهدد كافة أشكال الحياة للآلاف من الفلسطينيين في قراهم ومدنهم.
وفي ظل هذه الجرائم تواصل قوات الاحتلال أيضا فرض القيود على حرية التنقل والحركة بين المدن والقرى والإصرار على استمرا الإذلال والإهانة على الحواجز حيث باتت قصص الإهانات والإذلالات التي يلاقيها أبناء الشعب الفلسطيني لا تخفى على أحد. وكل ذلك يحصل في ظل صمت عالمي وعربي ومحلي رهيب.
وفي هذا الإطار جاءت العملية الاستشهادية في مدينة أم خالد "نتانيا" كرد طبيعي على كل الجرائم والمجازر التي ارتكبتها وترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني والتي سارعت السلطة، حفظها الله، إلى إدانتها بأقسى العبارات ولم يتم التطرق إلى ممارسات العدو الصهيوني إلاّ بإدانات خجولة. وأعلنت تمسكها بالتهدئة والتزامها "بالعملية السلمية" التي أصبحت السلطة مرتهنة إليها وتنتظرها إلى أبد الآبدين. ثم قامت بشن حملة اعتقالات واسعة بالعشرات لكوادر حركة الجهاد الإسلامي تزامنت مع الاعتقالات التي تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني.
وفي ظل التهدئة أيضا، ساءت الأحوال المعيشية للشعب الفلسطيني، وكي لا نلوم السلطة على ذلك، فعلينا أن نحمل الأحتلال ما وصلت إليه الحالة الاقتصادية في ظل الحصار والإغلاقات والاقتحامات. لقد جاء في تقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أرقام تدل على تردي الحياة المعيشية لللأسرة الفلسطينية. لقد فقدت 57.4% من الأسر الفلسطينية أكثر من نصف دخلها خلال السنوات الأربع الأخيرة، بواقع 57% من الأسر في الضفة الغربية، 58.3% في قطاع غزة.
وفي ظل التهدئة أيضا، تم التفريط بالسيادة الكاملة على المعابر عبر اتفاقية المعابر. لقد انتشينا وفرحنا كثيرا قبل ثلاثة أشهر عند اندحار الغاصب الصهيوني من غزة. فما الذي حصل بعد ذلك؟ لقد بددت السلطة هذا الانتصار بشعور المهزوم والمأزوم. إن السلطة بارعة في تضييع الانتصارات التي يحققها الشعب الفلسطيني بدمائه وتضحياته. بدأت السلطة بماراثون المفاوضات حول معبر رفح وبعد خض ورض ولد اتفاق "معبر رفح" وتباهى أركان السلطة بأنه كان "إنجازا" عظيما.
ففي هذا الاتفاق المزعوم أصر المفاوض الصهيوني على أن يكون دوره كما يلي:
- يتم ربط اجهزة الحاسوب في المعبر باجهزة الحاسوب الصهوني "بثا حيا ومباشرا".
- يتم ارسال صور كاميرات الفيديو التي تراقب نقاط الدخول والخروج ونقاط التفتيش ومكاتب الاستقبال واجهزة الفحص الىالجانب الصهيوني "بثا حيا ومباشرا".
- في حال لاحظ الصهاينة (من خلال شاشات الكاميرات التي تراقبها او شاشات اجهزة الحاسوب الموصولة بها) اي "خطر" تقوم بابلاغ الطرف الفلسطيني والطرف الثالث يقوم بالمنع من السفر او الاعتقال او المصادرة او غير ذلك.
- يقوم الكيان الصهيوني بتقديم قائمة اسماء بمن تصفهم بـ "المشبوهين الفلسطينيين" لمنعهم من السفر او اعتقالهم او غير ذلك في حال تواجدوا في المعبر.
- يزود الجانب الفلسطيني الكيان الصهيوني بأسماء العاملين في المعبر من خلال الطرف الثالث (الأوروبي) وإن كان هناك أي تحفظ ، من الجانب الصهيوني، على أي موظف أو عامل يتم أخذ ذلك بعين الاعتبار من قبل الجانب الفلسطيني.
وهكذا تم من خلال هذا الاتفاق التنازل عن مبدأ السيادة على المعبر وظل الحل والربط بيد الجانب الصهيوني بالتعاون مع الطرف الثالث "الحيادي"!!
هذا وقد تطرق العديد من المراقبين والمحللين إلى اتفاق المعابر الذي صيغ دوليا وأبقى على حق الكيان الصهيوني في السيطرة على المعابر. لقد أشار (راجي الصوراني) ،في محاضرة له حول اتفاقية المعابر، إلى الأوضاع التي يشهدها معبر رفح بالذات مؤكدا على أنه بالإضافة إلى المراقبة الإليكترونية بواسطة الكاميرات وشاشات الكمبيوتر والمراقبين الأوروبيين الذين يشرفون على تطبيق شروط وإملاءات الجانب الصهيوني، يبقى الحق للصهيوني أن يحدد من هو الغزاوي الذي يحق له السفر عبر معبر رفح والذي يجعل الصوراني خلال محاضرته إلي اتفاقية المعابر، مؤكداً أن وضع المعابر صيغ مجدداً بموافقة دولية علي أن تتمتع إسرائيل بحق السيطرة علي هذه المعابر. وأشار إلي الأوضاع التي يشهدها معبر رفح البري المنفذ الوحيد لقطاع غزة علي العالم الخارجي مؤكداً انه عدا عن كاميرات الفيديو، وشاشات الكومبيوتر والمراقبين الأوروبيين الذين يشرفون علي تطبيق الشروط والإملاءات الإسرائيلية، فان جوهر الموضوع يتعلق بحقيقة أن إسرائيل هي الجهة التي تحدد من هو الغزاوي الذي يحق له السفر عبر معبر رفح، حيث أن جوازات السفر الفلسطينية تصدر بناء عل رقم الهوية الإسرائيلية. ومن لا يمتلك هوية، لا يحق له السفر عبر هذا المعبر، وهو الأمر الذي يجعل من سيطرة الاحتلال على المعبر سيطرة كاملة ومطلقة ليس من حيث الشكل فقط، وإنما من حيث المضمون أيضا وذلك من خلال تحكم الصهيوني في تحديد من هو صاحب الهوية مما يترتب على ذلك حرمان آلاف الفلسطينيين الذين لم يصدر لهم الصهيوني أرقام بطاقات شخصية "هويات" حتى هذه اللحظة، من السفر.
وفي ظل التهدئة أيضا، ازداد عدد الأسرى والمعتقلين في السجون والمعتقلات الكيان الصهيوني. وحسب آخر الإحصائيات أن هناك أكثر من 9000 أسير وأسيرة يقبعون في زنازين العدو الصهيوني يتعرضون لأبشع أنواع القهر الإنساني.
لقد أوضح نادي الأسير أن عدد عدد الأسرى الذين سقطوا داخل السجون بسبب التعذيب وسوء المعاملة والإهمال الطبي منذ بداية الاحتلال وصل إلى 181 أسيراً وأنّه في الخمس سنوات الأخيرة أي منذ اندلاع انتفاضة الأقصى سقط 10 شهداء أغلبهم بسبب الإهمال الصحي، ولم يُقدّم أيّ مسؤولٍ صهيوني للمحاكمة والمساءلة عن هذه الجرائم الخطيرة التي حدثت داخل السجون.
وأشار نادي الأسير إلى وجود 950 حالة صحية صعبة في صفوف الأسرى من بينها 25 حالة مصابة بالسرطان ومهددة حياتها بالخطر، وأنّ سياسة الإهمال الطبي أصبحت قانوناً دارجاً في السجون في ظل افتقاد هذه السجون للحد الأدنى من العناية الطبية.
وقال نادي الأسير إنّ 90% من الأسرى يتعرضون لتعذيب قاسٍ بما فيهم الأطفال القاصرين والمرضى والمصابين، مشيراً إلى استخدام "أساليب لا أخلاقية كالتحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب تستخدم مع الأطفال خلال استجوابهم".
وأضاف نادي الأسير أنّه من بين أساليب التعذيب "الاعتداء على الأسرى ضرباً بشكلٍ مبرح خلال اعتقالهم واستخدام أساليب وحشية ومنافية لكل الشرائع الدولية منذ لحظة اعتقال الأسير وقبل وصوله إلى السجن أو مركز التوقيف وقبل أنْ يعرف الأسير تهمته وسبب اعتقاله".
وتتجسد معاناة الأسرى في السجون الصهيونية بمنع المئات من ذوي الأسرى من الزيارات، واستخدام العنف والقمع اتجاه المعتقلين لأتفه الأسباب، وفرض سياسة التفتيش العاري والمذلّ على الأسرى، وفرض الغرامات المالية والعقوبات بالزنازين والحرمان من الزيارة، وعزل الأسرى بشكل انفرادي بشكل مفتوح ولسنوات طويلة، وممارسة الإهمال الصحي للمئات من المرضى والمصابين، وسوء أماكن الاحتجاز وافتقادها للحد الأدنى من المقومات الإنسانية، وسوء الطعام وعدم كفايته وعدم توفر الملابس الكافية ومواد التنظيف، والاعتداء على الأسرى خلال نقلهم إلى السجون أو إلى المحاكم، وافتقاد السجون للتهوية الكافية إضافة إلى الاكتظاظ وانتشار الرطوبة والحشرات. ولعل ما حدث مؤخرا في معتقل عوفر أكبر دليل على ما تعرض ويتعرض له الأسرى في المعتقلات الصهيونية دون حساب أو عقاب ووسط صمت عالمي رهبيب.
وعلى هذا الأساس، باتت التهدئة عبئا على الشعب الفلسطيني الذي يعاني مرارة هذا الاحتلال الغاشم. فجيش الاحتلال لا يعير اهتماما لهذه التهدئة أو الهدنة كما يحلو للبعض تسميتها ويستمر في ممارساته القمعية وسط صمت عالمي وعربي ومحلي رهيب. وبات الشعب الفلسطيني واقعا بين مطرقة الاحتلال الصهيوني وسندان السلطة الفلسطينية بأدائها المتخاذل والضعيف.
لقد تحولت السلطة إلى وزراء نفي وإدانة ومناشدات ومطالبات. فبدلا من انتظار المفاوضات التي لن تأتي إلا بإرادة صهيونية وأهداف صهيونية، كان الأجدر بالسلطة أن تلتفت إلى الشعب وتعكف على معالجة الملفات الشائكة التي يعاني منها الشعب وعلى رأسها حالة الفلتان والفوضى التي تعم القطاع والضفة. إن السلطة مطالبة باتخاذ خطوات عملية على الأرض لوقف حالة الفلتان الأمني وتثبيت سيادة القانون والقضاء على أشكال ومظاهر الفوضى في الشارع لإشاعة الاستقرار والأمن في المجتمع. وكذلك المضي في الإصلاح الداخلي وتمتين الوحدة الداخلية وتنفيذ كل بنود اتفاق القاهرة ومحاربة الفساد التي ستنعكس بلا شك على الحالة المعيشية للمواطن الفلسطيني.
وبدلا من المطالبة بوقف العمليات والالتزام بالتهدئة المذلة من طرف واحد وتجريد المقاومة من أسلحتها، كان الأولى بالسلطة أن تتمسك بالوحدة الوطنية وتتمسك بشرعية المقاومة التي بلا شك ستكون قوة يستفيد منها "المفاوض الفلسطيني" إن حصلت مفاوضات. يجب التصميم بإرادة لا لبس فيها أنه طالما هناك احتلال ستبقى المقاومة مشرعة في وجه الاحتلال. يجب على السلطة الانحياز إلى جانب الإرادة الشعبية وتنبذ من صفوفها الخارجين عن هذا الإرادة.