القائلون بالنظرية التآمرية يصرّون، هذه الأيام، على القول إن ثمة صفقة تمّت بين أميركا وسوريا، وأن دول المنطقة كلها قد جرى حملها على الإنخراط فيها والمشاركة في بعض جوانبها. صحيح أن للمؤامرة دورا وتأثيرا في العمل السياسي عبر التاريخ، إلاّ انها ليست حاجة أو ضرورة في كل المراحل والظروف. فالولايات المتحدة تسعى سرا وعلنا الى الخروج من ورطتها المتفاقمة في العراق. وهي، بسبب هذه الحاجة والدافع، وضعت خطةً ولم تتآمر بالضرورة مع سوريا او غيرها لعقد صفقة من اجل بلوغ غايتها. ذلك ان سوريا وغيرها من الدول ذات الصلة تبدو على اتمّ الإستعداد للتفاهم مع الولايات المتحدة اذا كان من شأن ذلك تخليصها من الضغوط الاميركية المضنية وتأمين الحدود الدنيا من مصالحها الوطنية والسياسية.
لعل ما يشعر به قادة المنطقة، هذه الأيام، ويلمسون مقدماته هو خطة اميركية للخروج من العراق بالتدريج، وان هذه الخطة التي باشرت إدارة بوش تنفيذها تنطوي على جوانب متعددة تتناول دولا عدّة في المنطقة.
سواء كنا أمام خطة للخروج من ورطة أو أمام صفقة تنطوي على تسوية متكاملة فإن الفريقين يتفقان على ان الحدث موضوع البحث قد دخل حيز التنفيذ بدلالة التطورات والمؤشرات الآتية:
* إنحسار الضغوط الاميركية على سوريا بإعفاء ضباطها المشتبه فيهم في جريمة إغتيال الحريري من المثول أمام لجنة التحقيق الدولية في لبنان والإستعاضة عن هذا التدبير المذلّ بإجراء التحقيق في مقرٍ للأمم المتحدة في فيينا. وفي هذا الإطار، سكتت إدارة بوش، كما الحكومة الفرنسية، عن فضيحة الشاهد "المقنّع" هسام طاهر هسام الذي قوّض، إلى حدّ بعيد، تقرير لجنة التحقيق الدولية. كما سكتت إدارة بوش عن إفتضاح أمر المقبرة الجماعية التي جرى إكتشافها على مقربة من مقرّ جهاز الأمن والإستطلاع (الإستخبارات) السوري في عنجر بعدما تركه أصحابه عقب خروجهم من لبنان أواخر نيسان الماضي.
* فتح معبر رفح، ما يعني عمليا الإفراج عن أكثر من مليون فلسطيني كانوا محتجزين في قطاع غزه وممنوعين من الإنتقال إلى الخارج والتواصل مع سائر الفلسطنيين والعرب والعالم.
* تعظيم دور اسحق رابين السلمي وجعله قدوة للمرحلة المقبلة وذلك بإقامة إحتفال لافت في الذكرى الحادية عشرة لإغتياله ، شارك فيها قادة العالم وفي مقدمهم كوندوليزا رايس.
* إغتنام ذكرى رابين المهيبة لإعلان إنشقاق ارييل شارون النهائي عن حزب ليكود الذي كان من ابرز مؤسسيه ، وإنشقاق شيمون بيريز عن حزب العمل الذي كان من ابرز زعمائه ، وإلتقاء الزعيمين في حزب جديد – " كاديما" او "الى الأمام" – يجسّد مبادئ الوسط وسياسته المعتدلة، وقيام شارون بإعلان "تاريخي" عن كرهه للحرب وإلتزامه" خطة الطريق" بما تنطوي عليه من حق للفلسطينيين بإقامة دولتهم!
* مسارعة إسرائيل، بضغط من إدارة بوش، إلى تنفيذ مضمون إنذار المقاومة اللبنانية (حزب الله) بتسليم جثامين شهدائها الثلاثة خلال 48 ساعة تحت طائلة التخلي عن إتفاق وقف إطلاق النار وبالتالي معاودة الإشتباك.
* تجميد مساعي الولايات المتحدة، مؤقتا، الرامية إلى تجريد حزب الله من السلاح وفق قرار مجلس الامن 1559.
* الترخيص لسفير اميركا في بغداد زلماي خليل زاد بمباشرة مفاوضات مع طهران في صدد تهدئة الوضع في العراق بطريق التعاون لإجراء الإنتخابات النيابية فيه منتصف الشهر الجاري.
* إعلان وزير الداخلية العراقي بيان جبر صولاغ عن ارتياحه لإنضباط الوضع على الحدود العراقية – السورية وإرتياح حكومته إلى إنحسار تسلل الإنتحاريين.
* إنعقاد المؤتمر التحضيري للوفاق الوطني العراقي في القاهرة أواخر الشهر الماضي تحت رعاية جامعة الدول العربية وبدفع قوي من مصر والسعودية.
* تراخي التهديد الاميركي بنقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن في سياق تهدئة إيران من اجل إنجاح الإنتخابات النيابية في العراق.
هكذا يتضح ان إدارة بوش ماضية في تنفيذ خطة الخروج من العراق وإن كانت تتظاهر بأنها غير مستعجلة في ذلك.
هل ثمة ما يمنع وصول الخطة الى نهاياتها المنطقية ؟
نعم. إن إسرائيل، وربما إيران أيضا، قد تتسببان في تعطيل تنفيذ الخطة خلال الأشهر الستة القادمة. ذلك ان عودة العمليات الإستشهادية الى عمق إسرائيل قد تقلب الوضع السياسي–الانتخابي رأسا على عقب وتدفع بالأمن إلى ان يصبح، مرة أخرى، المحور الأبرز في الانتخابات القادمة. هذا الإحتمال لا يُضعف جبهة الوسط الجديد (محور شارون– بيريز) فحسب بل يقوّي أيضا محور نتنياهو – الأحزاب الدينية. يتأتى عن ذلك تصعيد العنف من خلال ضربات إسرائيلية متصاعدة تستهدف قيادات فلسطينية، تقابلها ردود فعل لا تقل عنها عنفا من طـرف " الجهاد الإسلامي"و" حماس". هذا يؤدي بدوره إلى إنعكاسات سلبية تطاول لبنـان (حزب الله) وسوريا. وإذا ما لاحظت إيران ان ردود الفعل الإسرائيلية قد جاوزت حدود الإحتمال بالنسبة للبنان وسوريا، فإنها لن تتردد في تشديد ضغطها على الولايات المتحدة في العراق عبر التنظيمات المحلية الموالية لها.
حتى لو أمكن تهدئة المشهد الفلسطيني، بشكل أو بآخر، فإن فوز محور نتنياهو –الأحزاب الدينية في إنتخابات الربيع قد يؤدي إلى تصعيد الموقف الإسرائيلي، قليلا او كثيرا، ما يفضي إلى إستعجال ضرب المنشآت النووية الإيرانية. أكثر من ذلك: ان جنوح شارون إلى الإعتدال على الصعيد الفلسطيني لا يعني بالضرورة جنوحه إلى الإعتدال على الصعيد الايراني. فهو قد يكتفي بإعتدال مظهري على الصعيد الفلسطيني ، قابل لـِ " التعويض" عنه بتدبير متشدد، بل عنفي، ضد إيران لضمان الفوز في الإنتخابات.
هذا السيناريو ليس بسيطا بطبيعة الحال. انه ينطوي على أخطار جمة تصيب الولايات المتحدة من جهة، كما إيران من جهة أخرى، بأضرار استراتيجية فادحة. فلا واشنطن مستعدة للتسامح مع إسرائيل إذا ما تصرفت هذه الأخيرة، من وراء ظهرها، على نحوٍ يعود عليها بالضرر. ولا إيران لقمة سائغة ولا هي عاجزة عن الردّ على نحوٍ ينال من إسرائيل كما يلحق الضرر بمصالح أميركا النفطية في منطقة الخليج.
الصراع، اذاً، محموم ودقيق ومفتوح على إحتمالات خطيرة شتى. من هنا ينبع حرص إدارة بوش على مباشرة خطة الخروج من العراق تدريجيا وعلى نحوٍ لا يؤذي الدول المجاورة له . لكن ثمة تطورات قد تحدث وتحملها على الإختيار بين ان تقدم لإيران، وربما لسوريا أيضا، بعض التنازلات، او ان تصرّ على الخروج دونما تنازلات. في هذه الحال قد تتأزم الأمور وتتصادم المصالح والارادات على نحوٍ قد يخرج السيطرة من يدّ أميركا في العراق ، وربما يعرّضها للخروج مع نفوذها من المنطقة.
أليس هذا تحديدا ما حذّر منه هنري كيسينجر إدارة بوش في الآونة الأخيرة ؟