من مفارقات السياسة المضحكة المبكية في لبنان ان معظم رافعي شعـــار " حرية ، سيادة ، إستقلال " من السياسيين التقليديين القدامى والجدد قد باتوا من عتاة المنادين ، مباشرةً أو مداورةً ، بتدويل " الحالة " اللبنانية . أقول " الحالة " اللبنانية وليس الدولة اللبنانية لأن لبنان أضحى على أيدي طبقته السياسية التقليدية الحاكمة مجرد حالة سياسية مَرَضية تبدو عصيّة على المعالجة المحلية . ربما الأصح ان يقال ان " أطباء " الطبقة السياسية إياها يريدون ان يلقوا في روع اللبنانيين ان لا سبيل إلى إنقاذ النظام المريض إلاّ بواسطة أطباء دوليين يعملون تحت رقابة هيئة " طبية " عليا إسمها مجلس الأمن الدولي .
الحقيقة ان هذه الطبقة السياسية التي ما فتئت تعيد إنتاج نفسها منذ إستقلال البلاد قد تمكّنت ، بقصورها وقصر نظرها ، من تدويل مختلف وجوه الحالة اللبنانية منهجيا وتدريجيا . فهي دوّلت الوضع الأمني الحدودي مع العدو الصهيوني بإتفاقية الهدنة العام 1949. ثم ما لبثت ، نتيجةَ ضعفها وقلة حيلتها ، ان قيّدت نفسها والبلاد بقراراتٍ متلاحقةٍ لمجلس الأمن تناولت اللاجئين الفلسطينيين ، والمناطق المحتلة في لبنان بما في ذلك قوات الطوارىء الدولية ، لتجد نفسها مضطرةً عقب الحرب الأهلية إلى القبول بصيغة " قوات الردع العربية " المتعددة الجنسية ، بادئ الأمر ، ثم المقتصرة على القوات السورية . وغداة إنسحاب القوات الإسرائيلية العام 2000، إنزلقت إلى تكريس إتفاقية " الخط الأزرق " المتعارضة مع واقع حدود لبنان الدولية.
في هذه الأثناء ، ونتيجةَ تدهور الأوضاع المالية والاقتصادية الناجمة عن الحرب الأهلية ، تمّت " دولرة " الوضع النقدي والمصرفي . بعدها جرى التسليم بمنطقٍ مفاده أن معالجة الدين العام المتفاقم وتنشيط الإقتصاد والإستثمار إنما تتمّ بطريق مؤتمرات دولية كباريس -1 ، وباريس – 2 وما إلى ذلك من تركيبات وترتيبات ترعاها دول كبرى ليست بطبيعة الحال جمعيات خيرية أو مؤسسات تنموية.
إذْ انجزت تدويل الأمن والاقتصاد ، وقبلهما بزمن طويل عولمة التعليم العالي بكليات وجامعات فرنسية وأميركية ، إنزلقت الطبقة السياسية التقليدية ، نتيجة تناحر أركانها وقصورها وتواطئها مع الخارج العربي والخارج الدولي ، إلى تدويل التحقيقات القضائية الجنائية بالموافقة على إقامة لجنة تحقيق دولية لكشف حقيقة جريمة اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري. وها هي اليوم ، بعدما تفاقم المسلسل الإجرامي وتلاحقت فصوله تباعا مع سيطرة أكثريتها النيابية الإئتلافية على الحكومة وإجرائها تعيينات وتشكيلات أمنية ، تسعى بكل قواها إلى تدويل ما تبقى من التحقيقات القضائية الجنائية بمطالبة مجلس الأمن توسيع صلاحيات لجنة التحقيق الدولية لتشمل قضايا الاغتيالات جميعا ، بدءا بمحاولة إغتيال الوزير مروان حماده وصولا إلى قضايا اغتيال كل من سمير قصير ، وجورج حاوي وجبران تويني ، مروراً بمحاولتي إغتيال الياس المر ومي شدياق . وليس من شك في ان صلاحيات لجنة التحقيق الدولية ستنسحب بالضرورة ، في حال إقرارها ، على القضايا الجنائية اللاحقة لتاريخ توسيع صلاحياتها . ولن يطول الزمن قبل ان تنادي فئات من الاكثرية النيابية الحاكمة بنشر قواتٍ دولية لضمان تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559.
أية دولة هي هذه " الدولة " التي بات أمنها وإقتصادها ونقدها وتعليمها العالي وقضاؤها مدّولا ؟ وماذا يبقى من استقلالها وسيادتها عندما تصبح كل هذه القطاعات الأساسية مدوّلة ، ناهيك بالقـرار السياسي الذي تضطلع به شكليا طبقة سياسية استطابت ، على مرّ التاريخ المعاصر ، وصاية إقليمية أو دولية على شؤونها وشجونها ؟
في مقابل ، بـل في مواجهة ، هذه الطبقة السياسية المخصية والمرتهنة ، نشأت حالات ساطعة من الأصالة والتمرد والتحرر والريادة تمثّلت في شخصيات سياسية ومفكرين ومصلحين ومناضلين حاولوا ، بالتفكير والتدبير ، توجيه الاجتماع السياسي اللبناني وجهة مغايرة ، قوامها الحرية والإستقلال والإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي والتنمية والإبداع ومواجهة المطامع الصهيونية والهيمنة الأجنبية .
على الصعيد السياسي ، تمثلت الحالة النهضوية أكثر ما يكــون بـ " الجبهة الاشتراكية الوطنية " في مطالع الخمسينات ، ثم بـ " الحركة الوطنية " في منتصف السبعينات ، وبالمقاومة الوطنية والإسلامية بقيادة " حزب الله " في منتصف التسعينات من القرن الماضي وصولا إلى الوقت الحاضر.
اليوم تجري محاصرة الحالة النهضوية بهجمة دولية نجحت ، بركوبهــــا " تسونامي " الإحتجاج الشامل على إغتيال الرئيس رفيق الحريري ، في جرف الوجود السوري من لبنان . وهو وجود كان قد إستنقع وأضحى عالةً على القوى الوطنية النهضوية بعدما حررت المقاومة معظم الجنوب اللبناني من العدو الصهوني منتصف العام 2000 . كما تجد هذه القوى نفسها مهددةً اليوم بهجمة التدويل وقد ركبت تسونامي سياسية ثانية ولدّها إغتيال النائب والصحافي الجريء جبران تويني بقصد ضرب المقاومة تحديدا . لماذا ؟ لأن الولايات المتحدة مصممة على تجريد حزب الله من السلاح بغية تنفيس الحالة الوطنية النهضوية . بل ان هجمة التدويل تبدو ناشطة لتحقيق غرض آخر هو تحويل لبنان منصةً للوثوب على سوريا وضرب قواها الوطنية والديمقراطية في الحكم والمعارضة معاً وذلك في سياق حملة تفتيت بلدان المشرق العربي وتحويلها جمهورياتِ موزٍ هزيلة وهزلية على أسس قبلية وطائفية واثنية .
إزاء هذا التصعيد المتواصل والتأزيم المتفاقم في سياق هجمة التدويل... ما العمل ؟
لقد اختـارت الطبقة السياسية التقليدية ، بتكتلاتها وأحزابها وشخصياتها ، طريقها واتخذت قرارها بالتماهي مع هجمة التدويل ، فماذا تفعل القوى الوطنية النهضوية ؟
ثمة مشروع استراتيجيا بخطوط عريضة أطرحه للمناقشة العامة والحوار ، علّ فيه ما يجدي ويفيد ويشحذ فواعل التفكير والتدبير :
أولا : ما عاد التلاقي الظرفي العابر بين القوى الوطنية يكفي لمواجهة هجمة التدويل المتمادية . ثمة حاجة حارّة إلى توحيد القوى الوطنية والديمقراطية والإسلامية الشوروية في جبهة عريضة فاعلة ..
ثانيا : ما عادت المقاومة الميدانية تكفي لمواجهة العدوان الأميركي – الصهيوني على الحدود والوجود والصمود . ثمة حاجة حارّة إلى أن تكون المقاومة الميدانية مقرونةً بمقاومة مدنية ، سياسية واجتماعية وثقافية ، على نحوٍ يمكّن المقاومتين معاً من شن هجوم سياسي واجتماعي شامل على مستوى البلاد برمتها في مواجهة الطبقة السياسية الممالئة للدول الكبرى ولمصادر العدوان الخارجي . ففي النضال من أجل القضايا الاجتماعية والمطلبية المعيشية تذوب العصبيات الطائفية وتنعدم الإثارة المذهبية .. كذلك يقتضي ، تصحيحاً لسقوط ديمقراطية التوافق في القضايا الوطنية والأساسية باعتماد الاكثرية أخيراً قاعدة التصويت في مجلس الوزراء ، شنُّ حملة سياسية وطنية متدرجة لتنفيذ أحكام الدستور المتعلقة بإنتخاب مجلس النواب على أساس وطني لاطائفي ، وحصر التمثيل الطائفي في مجلس الشيوخ . وفي مطلق الأحوال يقتضي إجراء إنتخابات نيابية مبكرة على أساس قانونٍ جديد يعتمد نظام التمثيل النسبي .
ثالثا : ما عاد حشد عشرات الالوف في " يوم القدس " و" عاشوراء" يكفي للتعبئة والتأثير بل يقتضي إتخاذ قرار تاريخي بإشراك الجمهور المسيس والمنظم في النضال الديمقراطي الإجتماعي والهجوم به سياسيا على مواقف الطبقة التقليدية الحاكمة لفضحها وزحزحتها وإجلائها تاليا عن مواقع القرار بالوسائل الديمقراطية .
رابعا : ما عاد يكفي التغني بالديمقراطية والتغرغر بها كما تفعل قوى النظام الطوائفي الفاسد بجناحيها الموالي والمعارض ، بل يقتضي إلتزام الديمقراطية فكرا ونهجا وممارسةً داخل الأحزاب والقوى السياسية نفسها كخطوة أولى لا بد منها لإضفاء صدقية وجدية على النضال من اجل تعميمها في المجتمع وترسيخها في الدولة .
خامسا : ما عاد يجوز مهادنة الأنظمة العربية والإسلامية ، بأعذار شتى ، للسكوت عن إستبدادها وقمعها لشعوبها بل يقتضي التلاحم مع قوى التحرر والديمقراطية ونصرة حقوق الإنسان والعمل الجاد في ميادين محاربة الفساد ومباشرة الإصلاح وتعميم التنمية .
هذه الرؤية الطموحة لا تنبع من أوهام بل من إرادة للتغيّر صلبة وواقعية ، ومن حاجات حارّة تعتمل في نفوس الناس التوّاقين إلى الخروج من حال الركود والخنوع والفوضى والفساد إلى رحاب الحركة والحرية والنهضة والشفافية والعدالة والتنمية .
ليس صحيحا ان الأعداء المحليين والإقليميين والدوليين أقوى منا وأفعل . بالعكس ، انهـم في مأزق تاريخي وعلى شفير تحولات جذرية ، سياسية واستراتيجية ، تنبيء موازين القوى المتحولة ببطء لكن باطّراد بأنها تتجه لمصلحة الشعوب الناهدة إلى التحرر والحرية والديمقراطية .
اجل ، انها رؤية واقعية تستقي جديتها من تشاؤم العقل ، وتشحن حركتها بتفاؤل الإرادة .