لا يكفّ جورج بوش عن تمجيد إنجاز الانتخابات العراقية. يتباهى قائـلا: "إن العراق الديمقراطي سيكون مثالا إيجابيًا للإصلاحيين من طهران إلى دمشق".
مثله يفعل ديك تشيني وكوندوليزا رايس وزلماي خليل زاد، هو وفريقه الحاكم وحزبه الجمهوري لهم مصلحة جميعًا في اعتبار الانتخابات إنجازا عظيما لأنها الأساس الذي سيعتمده لتبرير انسحاب قواته التدريجي من العراق. قد لا يتوانى عن "إعلان النصر" وإعطاء الإشارة لمباشرة الانسحاب خلال الشهر القادم. هل تفاؤل بوش في محله؟ الحقيقة إن الوضع العراقي شديد التعقيد، وقد زادته الانتخابات تعقيداً. فما هي الواقعات والتحديات والإحتمالات؟
الواقعات:
لم تعلن المفوضية العليا للانتخابات النتائج النهائية بعد بسبب كثرة الطعون والشكاوى. لكن من خلال استقصاءات القوائم المتنافسة وتسريبات موظفي المفوضية نفسها يمكن رسم لوحة تقديرية لأوزان القوى في البرلمان العراقي الجديد.
لعل العدد الأكبر من المقاعد النيابية سيكون من نصيب قائمة "الائتلاف العراقي الموحّد" الشيعي الذي يضم جملة أحزاب وتكتلات أبرزها "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" بقيادة عبد العزيز الحكيم، "وحزب الدعوة" بقيادة إبراهيم الجعفـري، و "التيار الصدري" بقيادة السيد مقتدى الصدر. لكن عدد مقاعد "الإئتلاف الموحد" منفرداً لن يصل إلى مستوى تكوين الأكثرية المطلقة. حتى لو حصل عليها، فإنها مهددة بالانفراط بسبب التباينات المتزايدة بين مكوّناته. الأرجح أن نواب التيار الصدري سيسعون إلى التمايز عن نواب المكوّنات الأخرى وينسجون علاقات وتحالفات مع تكتلات في داخل البرلمان وفي خارجه، الأمر الذي يدفع كثيرين إلى الاعتقاد بأن التيار الصدري سيكون الأقوى بين التكتلات المتصارعة.
المرتبة الثانية ستكون لِـ " قائمة التوافق الوطني" بقيادة عدنان الدليمي. ذلك أنها استفادت من إقبال أهل السنّة النسبي على التصويت في محافظات نينوى (الموصل) وصلاح الدين (تكريت) والأنبار(الرمادي) وديالى (بعقوبة).
المرتبة الثالثة في عدد النواب سيحتلها التحالف الكردستاني، المعقود اللواء لجلال طالباني ومسعود برزاني، الذي اكتسح المحافظات الكردية الثلاث في الشمال.
المرتبة الرابعة قد تحتلها "القائمة العراقية الوطنية" بقيادة أياد علاوي، رئيس الحكومة الأسبق، وهي قائمة مختلطة مذهبيا وسياسيا وإيديولوجيا. ولعلها استفادت أيضا من الإقبال السنّي النسبي على التصويت في مناطق الغرب والشمال الغربي.
أما المرتبة الخامسة فيتنافس على احتلالها كل من: "المؤتمر الوطني العراقي" بقيادة احمد الجلبي و "الجبهة العراقية للحوار الوطني" بقيادة صالح المطلك.
هذه التكتلات والأحزاب، باستثناء التيار الصدري وقائمة التوافق الوطني، تستظل الاحتلال وتتوجّه بسياسته. غير أنها جميعا تسلك درب المساومة والمقايضة ونشدان المصالح السياسية الضيقة في تحالفاتها كما في تناقضاتها.
التحديات
يواجه العراق بعد الانتخابات الأخيرة جملة تحديات بعضه قديم وبعضه الآخر جديد. أبرز التحديات القديمة المقاومة الناشطة في معظم محافظاته. لقد منحت مختلف منظمات المقاومة الناخبين فرصة كي يمارس من يرغب بينهم حقه في التصويت، دونما ترغيب أو ترهيب. لكن ما أن انتهت عمليات الاقتراع حتى عاودت المقاومة نشاطها كالعادة وبلا هوادة. بذلك يكون العراق قد دخل مرحلة جديدة يمكن تلخيصها بمرحلة القتال والجدال في آن واحد. المقاومون يقاتلون في الشارع، والنواب يتجادلون في البرلمان. ومن الطبيعي، في هذه الحال، أن يعكس النواب أراء ناخبيهم وإراداتهم. ويبدو أن قادة المقاومة توصلوا إلى اقتناع مفاده أن المرحلة الراهنة تتطلب مواجهة متصاعدة للاحتلال على الصعيدين الميداني والسياسي. هذا ما يفسر هدنة الـ 48 ساعة التي التزموها لتمكين العراقيين الراغبين في التصويت من تحقيق رغبتهم. وقد فعل هؤلاء بأن اقترع الكثير منهم لصالح القوائم المعادية للاحتلال.
إذا كانت المقاومة هي التحدي الأبرز والأقوى، فان ثمة تحديات أخرى جديدة تواجه الجميع لكن من زوايا مختلفة تعكس تطلعات التكتلات والأحزاب ومصالحها السياسية. في هذا السياق، يبدو التحدي الأول هو رئاسة الحكومة التي يحــرص "الائتلاف العراقي الموحد" على الاحتفاظ بها لنفسه. التحدي الثاني هو قانـــون "إجتثاث البعث" الذي تدعو "قائمة التوافق الوطن" إلى إلغائه كليا وتعلّق تحالفاتها مع التكتلات الأخرى على مدى التزامها بمساندتها في إلغائه. كما تدعو القائمة المذكورة إلى توسيع صلاحيات السلطة الفدرالية، وتضييق صلاحيات السلطات الإقليمية، و إلى تحجيم المحاصصة الطائفية في بناء المؤسسات الإدارية والأمنية.
تتعاطف "القائمة العراقية الوطنية" مع مطلب إلغاء قانون "اجتثاث البعث" وتطرح اسم قائدها (العلاوي) لرئاسة حكومة جامعة تضم كل الأطراف. غير أن "قائمة التوافق الوطني" (الدليمي) تنشط على محاور متعددة وقد أبلغت زعمــاء "الائتلاف الموحد" الشيعي أنها مستعدة للتعاون معه والمشاركة في الحكومة التي سيؤلفها شريطة استجابة ثلاثة مطالب أساسية (إضافةً إلى إلغاء قانون "اجتثاث البعث") هي: تسليمها حقيبتي الداخلية والدفاع، وإعادة الجيش السابق الذي حلّه بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي السابق، وحلّ الميليشيات الحزبية (لا سيمــا "فيلق بدر").
التفارق والتعارض بين مطالب التكتلات ومصالحها يعطيان التيار الصدري هامشا واسعا من حرية الحركة. ذلك انه يتلاقى مع التكتلات ذات الطابع السنّي وذات الطابع العلماني في كثير من التوجّهات، لا سيما ما يتعلق منها بإنهـاء الاحتلال. كما انه يحظـى بدعمٍ من بعض الأطراف الشيعية الصغيرة في داخل البرلمان وفي خارجه كحزب الفضيلة وحركة "رسوليو ". وإذا ما أقدم على فرط تحالفه مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة فإنه سيكون في مركز يمكّنه من أن يلعب دور المرجّح في مسألة تأليف الحكومة وعضويتها وتوجهّاتها السياسية.
الإحتمالات
اعترف بوش في خطابه الأخير بأن الانتخابات العراقية "لا تعني انتهاء العنف". كما اعترف أيضا بأن تشكيل الحكومة الجديدة "سيستغرق وقتا قبل أن يتوصل العراقيون إلى إجماع".
بوش يعي كل التحديات والصعوبات التي يضج بها الوضع العراقي. كيف لا وهو الذي أسهم في افتعال الكثير منها؟ حتى لو أراد أن يتجاوز بعضها، فإن المقاومة كفيلة بإعادة قذفها في وجهه ما ينعكس، بالضرورة، على مستقبل علاقة أمريكا بالتكتلات المتنافسة داخل البرلمان، وعلى مسألة تأليف الحكومة، وعلى قضية سحب قسم من القوات الأمريكية إلى خارج العراق وقسم آخر إلى خارج المدن وبالتالي الى قواعد عسكرية بعيدة منها.
في هذا السياق، تبدو ثلاثة احتمالات مرجحة الحصول. الاحتمال الأول أن تطرح تكتلات عدة تسريع الانسحاب الأمريكي كشرط لاشتراكها في الحكومة. إن استجابة هذا الشرط يحرج الأمريكيين كثيرًا إذ يعقّد تأليف الحكومة الجديدة ويحول دون موافقتها على أية ترتيبات لإقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق. كما أن عدم استجابته يؤدي إلى تصعيد كفاح المقاومة الميدانية مقرونا بكفاح المقاومة السياسية التي سيشنها تكتلا التيار الصدري والتوافق الوطني وغيرهما.
الاحتمال الثاني أن تخفق القوات العراقية النظامية من جيش وشرطة وحرس وطني، التي دربها الأمريكيون، لفرض الأمن والنظام عقب إخلائهم المدن. في هذه الحال، قد تضطر القوات الأمريكية المنسحبة إلى قواعدها في خارج المدن إلى العودة إليها، أو قد تلقي ميليشيات الأحزاب الدينية بثقلها إلى جانب قوات الحكومة الأمر الذي سيؤدي، بالضرورة، إلى تأجيج الحرب الأهلية.
الاحتمال الثالث أن تستثمر أطراف المقاومة حال الصراع والخلاف على المغانم والأسلاب في داخل القوى السياسية العراقية الممالئة لأمريكا من جهة، وتصاعد المطالبة في داخل أمريكا نفسها للخروج من المستنقع العراقي من جهة أخرى، فتصعّد هي بدورها وتيرة الصراع ضد الاحتلال والسلطات المحلية المتواطئة معه. كل ذلك سيضعف الاحتلال كما المتعاونين معه وقد يؤدي - إذا ما تحالف الصدريون مع المقاومة كما حدث أيام المواجهة في الفلوجة والنجف – الى انهيار النظام العراقي "الجديد"، بل إلى تسريع خروج ما تبقّى من القوات الامريكية بصورة مزرية.
التحديات مقلقة، والتكتلات متصارعة، والاحتمالات مفتوحة على أخطار شتّى، فهل من سببٍ يدعو بوش وعصبته إلى التفاؤل والابتهاج؟