لعلها المرة الأولى في تاريخ إسرائيل، الذي يقارب نحو ستة عقود من الزمان، أي: منذ زرعها في قلب الوطن العربي، وإعلانها كـ "دولة" (في: عام 1948) التي سوف تجرى فيها الانتخابات بمنافسة ثلاثة من الأحزاب الكبرى. فقد عودتنا الساحة السياسية الإسرائيلية على أن التنافس يتم بين الحزبين الكبيرين، العمل والليكود ولكن، في هذه المرة، دخل حزب جديد على خط المنافسة، وهو حزب "كاديما"، أو بالأحرى: حزب آريئيل شارون، الذي شكله منذ أسابيع قليلة، ليصبح واحداً من الأحزاب الكبرى في إسرائيل.
هذا، وإن كان لا ينفي أن ثمة أحزاب عديدة في إسرائيل، ولكن هذه الأخيرة لا ترقى إلى مستوى الأحزاب الكبرى، من حيث كونها لم تستطع، منذ أن أصبح منصب رئيس الوزراء بـ "الانتخاب"، وحتى الآن، أن تخوض غمار انتخابات رئيس الوزراء بواحد من مرشيها.. وذلك على العكس من حزبي العمل والليكود، مضافاً إليهما الآن حزب "كاديما".
ولعل هذا هو ما يدفعنا لإطلاق تسمية "ثلاثية الأحزاب الإسرائيلية" على ماجريات التنافس، القائم على قدم وساق، هناك، في إسرائيل، بخصوص الانتخابات القادمة.. تلك التي تحدد لها شهر مارس المقبل (من: العام 2006)، موعداً لإجرائها.
فهذه المرة، القادمة، سوف تشهد تنافساً من نوع جديد بين ثلاثة مرشحين، وليس اثنان فقط كما كان يحدث منذ سنوات، على منصب رئيس الوزراء..
فهناك، من جهة، عمير بيريتس، الزعيم الجديد لحزب العمل، بعد تغلبه على الشخصية العمالية التاريخية، شمعون بيريس، في انتخابات الحزب، وهو الذي يعتبر ـ وهو زعيم سابق للنقابات العمالية ـ أن شارون فشل في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في إسرائيل.. وبالتالي، يبدو أنه سوف يركز في برنامجه الانتخابي على المشكلة الاقتصادية.
وهناك، من جهة أخرى، بنيامين نتنياهو، الذي وإن كان قد خسر في الانتخابات على زعامة الليكود أمام شارون، إلا أنه عاد واستطاع الفوز على منافسيه على زعامة الحزب، وأهمهم سيلفان شالوم وزير الخارجية.. والمعروف أن نتنياهو ـ رئيس الوزراء السابق في إسرائيل ـ هو من أبرز معارضي الموازنة الإسرائيلية (موازنة العام 2006)، التي يريد شارون تمريرها ـ من خلال ثلاث قراءات ـ خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ومن الطبيعي، أن يركز نتنياهو في حملته الانتخابية على البعد الاقتصادي، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية في إسرائيل.
ثم، هناك، من جهة أخيرة، رئيس الوزراء الحالي، والفائز مرتان متتاليتان بهذا المنصب، والذي تعافى من جلطة دماغية مؤخراً، آريئيل شارون؛ حيث يرى أن الأمن هو صاحب الأولوية بالنسبة إلى الدولة العبرية.. وفيما يبدو، أن شارون، بعد التعافي، سيخوض الانتخابات بناء على ذلك. فهو من قام ببناء الجدار الفاصل؛ وهو، أيضاً، من ترك قطاع غزة بمشاكله ليغرق فيها الفلسطينيون حتى يستطيع الانفراد بالضفة الغربية..
أضف إلى ذلك، كما أشرنا في مقال سابق، ثلاثية "شارون، بيريز، موفاز".. وهي الثلاثية التي التقت مؤخراً حول حزب "كاديما"، الذي أنشأه شارون صاحب التاريخ المعروف، وتكاتف معه بيريز أبو البرنامج النووي الإسرائيلي، ثم موفاز الذي نال وعداً من شارون ببقائه في منصبه الحالي، وزيراً للدفاع، في حال فوز شارون برئاسة الوزراء في الانتخابات المقبلة (أليس من المثير، هنا، أن يقدم شارون وعده إلى شاؤول موفاز، وزير الدفاع؛ وليس إلى سيلفان شالوم، وزير الخارجية).
في هذا الإطار، يبدو أن الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، وبالتحديد انتخابات رئيس الوزراء، سوف تشهد تنافساً ثلاثياً حول إشكالية مزدوجة.. شارون ومعه الأمن كأولوية، في مواجهة بيريتس ونتنياهو ومعهما الاقتصاد كإشكالية لم يستطع شارون حلها.
والواقع، أن هذه الحالة الجديدة على الساحة السياسية في إسرائيل، هي حالة أشبه بـ "الاهتزاز السياسي" هناك.. وهي حالة جاءت نتيجة الأزمة السياسية العاصفة التي تعرضت لها الساحة السياسية، خلال الأشهر القليلة الماضية، واضطر شارون، بناء عليها، إلى الانسحاب من الليكود وإنشاء حزب كاديما الجديد.
ولم تكن هذه هي النتيجة الوحيدة لتلك الأزمة.. ولكن، أيضاً، هناك الانتخابات المبكرة، التي سوف تجرى قبل موعدها القانوني بنحو "ثمانية" أشهر.
هنا، نجد أنفسنا ـ مباشرة ـ في مواجهة التساؤل الذي طرح نفسه علينا، في بداية الحديث، نعني: السيناريو الإسرائيلي المتكرر، ذلك المتمثل في الخروج من الأزمة السياسية عبر إجراء انتخابات مبكرة..
فما هو الاستهداف الشاروني من وراء استخدام مثل هذا السيناريو(؟!).
بداية، يمكن ملاحظة أن ملف إجراء الانتخابات البرلمانية قبل موعدها، المقرر مرة كل أربع سنوات، يشير إلى أن هذا "التبكير" في الحياة الحزبية والسياسية الإسرائيلية قد تحول، منذ مطلع السبعينات، إلى "القاعدة".. وأصبح إجراء الانتخابات في موعدها، وهو الثلاثاء الثالث من نوفمبر مرة كل أربع سنوات، كما ينص على ذلك القانون الأساسي للكنيست (حيث لا يوجد دستور مكتوب، حتى الآن، تفادياً لتحديد الحدود، وأمور أخرى عديدة)، هو الاستثناء.
في الخمسينات، والستينات، حين كان حزب "الماباي" (حزب العمل حالياً)، هو القوة المسيطرة في الكنيست، ويمتلك، بزعامة بن جوريون ثم جولدا مائير، أغلبية مريحة بالتعاون مع "المفدال" (الحزب القومي الديني)، لم يحدث حل الكنيست بسبب فقدان الحكومة الأغلبية البرلمانية المطلوبة، لأنها كانت تملك ما هو أكثر من الأغلبية البسيطة طوال الوقت.. ولهذا، كانت الانتخابات تجري في مواعيدها المقررة.
حدث الاستثناء مرة واحدة، في العام 1958، حينما اضطر دافيد بن جوريون للاستقالة بسبب الخلاف ـ الذي مازال قائماً، بشكل أو بأخر، حتى الآن ـ حول تعريف: "من هو اليهودي؟!".. وباستثناء تلك الحادثة الكبرى، فقد مر عقدا الخمسينات والستينات دون ما تبكير في مواعيد الانتخابات.
لكن الأمور تغيرت مع بدايات عقد السبعينات.. بسبب بعض الأحداث التي مثلت نقاطاً انقلابية على منحنى الصراع بين "العرب.. وإسرائيل".
لقد كان تقريب موعد الانتخابات الأول، في هذا العقد، بعد الانتصار العربي (في 6 أكتوبر 1973)، وما أحدثه من هزات عنيفة في "المجتمع الإسرائيلي"، ذلك المجتمع الذي كان مسترخياً على انتصارات يونيو 1967؛ أو: حرب الديبلوكس ونزهة الدبابات كما كانوا يسمونها..
وبسبب انهيار تماسك حزب العمل، الذي كان يحكم قبضته على الدولة (قبل 1973)، وظهور "الحركة الديمقراطية للتغيير" بزعامة الجنرال "يادين" (وهي حركة منشقة عن الحزب الأم)، جرى تقريب موعد الانتخابات (من: نوفمبر 1977، إلى: مايو من نفس العام)؛ حيث أسفرت عن السقوط الأول لحزب العمل، وصعود المعارضة الإسرائيلية الرئيسة (تكتل الليكود) بزعامة مناحيم بيجين.
وبدلاً من أن تجري الانتخابات التالية في موعدها (نوفمبر 1981)، جرى تقريب موعدها بضعة أشهر؛ وذلك بعد أن قامت حكومة مناحيم بيجين بضرب المفاعل النووي العراقي، وأرادت استثمار شعبية الحزب التي تصاعدت كالسهم.
إلا أن الخسائر الإسرائيلية، نتيجة اجتياح لبنان (في: صيف 1982)، أدت إلى تولي إسحاق شامير رئاسة الحكومة، خلفاً لمناحيم بيجين.. ثم، انتخابات مبكرة (في: صيف 1984)، تعادل فيها الحزبان (العمل والليكود)، مما أدى إلى تشكيل حكومة مشتركة بينهما، أطلق عليها: "حكومة الرأسان" (بيريز ـ شامير)..
إلا أن الخسائر المتزايدة، في صفوف الجيش الإسرائيلي، ساهمت في أن تجري الانتخابات التالية (انتخابات العام 1988)، في موعدها؛ ولينفرد تكتل الليكود بالحكم، بعد تشكيل حكومة ائتلافية، مع أحزاب دينية ويمينية. لكن، عدم استطاعة الليكود الصمود طوال الفترة المطلوبة، بسبب انسحاب بعض الأحزاب الدينية من حكومة شامير، أدى إلى تقريب موعد الانتخابات مرة أخرى (في: العام 1992)، حيث عاد حزب العمل إلى قمة الهرم السياسي، بعد غياب طويل، ولكن برئاسة إسحاق رابين هذه المرة.
أيضاً، كان من المقرر إجراء انتخابات العام 1996 في التاسع والعشرين من نوفمبر؛ ولكن مرة أخرى، جرى تبكير موعدها إلى مايو من العام نفسه، وذلك لسببين:
أولهما، اغتيال إسحاق رابين وتراجع قوة الليكود، واليمين عموماً، بعدما اتهمهم الإسرائيليون بأنهم مسؤولون عن سفك دم رابين، بما مارسوه من تعبئة حاقدة واتهامات بالخيانة، عبدت الطريق نحو بروز شخص مثل "إيغال عامير"، وقيامه باغتيال رابين..
أما السبب الثاني، فهو عدم استطاعة بيريز ـ آنذاك ـ تحقيق أي إنجاز يكون من صنعه هو، ليتقدم به إلى الناخب الإسرائيلي..
ورغم أن السبب الأول كان قد ساهم في تأجج المشاعر، وتصاعد شعبية حزب العمل.. إلا أن السبب الثاني كان قد ساهم في دفع نتائج الانتخابات إلى الوجهة التي لم يكن يتمناها الحزب (العمل).. ليأتي بنيامين نتنياهو (في: العام 1996).
والملاحظ، أن نفس السيناريو الإسرائيلي، نعني: تبكير موعد الانتخابات، سوف يتكرر خلال الأعوام 1996 ـ 2000، أي: خلال حكومتي بنيامين نتنياهو وإيهود باراك.
وفي ما يبدو، هكذا، فمن خلال الخبرة التاريخية التي يتيحها السيناريو الإسرائيلي إياه، فإن شارون يحاول ستغلال "تأجج" مشاعر الغضب لدى الإسرائيليين، واللعب على "احتمال" توجيه ضربة عسكرية أمريكية، أو إسرائيلية ـ ربما ـ إلى إيران.. ومن ثم، فإن محاولته في تبكير موعد الانتخابات ليست سوى محاولة من جانبه في تجنب "السقوط" عبر انتهاز فرصة هذا "الاحتمال" وذلك "التأجج".