تقلّد عبد الحليم خدام وظائف عدّة في حياته السياسية المديدة. لكن ثمة وظيفة دائمة لم يعيّنه فيها أحد بل عيّن نفسه فيها ومارسها بشغف طيلة 35 عامًا، وما استطاع أحد أن يقيله منها. إنها وظيفة الشاهد. فقد شاهد خدام رؤساءه أكثر من ثلث قرن يمارسون السلطة عليه وعلى الناس. وشاهد نفسه يمارسها معهم على مرؤوسيه وعلى الناس. وهاهو الآن يشهد على هؤلاء جميعًا، لكنّه لا يشهد على نفسه. إنه، بحق، شاهد ملك. قيل أن ديتليف ميليس أطلق عليه هذا اللقب. ربما. لكنّه لا يحتاج إلى ميليس ليغدق عليه لقباً استحقه بنفسه طيلة 35 عاماً. كان يشاهد الجميع بدقة، ولا يشهد على أحد بفطنة، إلى أن أقيل من وظائفه كلها أو استقال منها ليحتفظ بوظيفته الأثيرة، وظيفة الشاهد الذي يشهد على الآخرين جميعاً ولا يشهد على نفسه.
في شهادته الأخيـرة، عشية رأس السنة الميلادية الجديدة، أراد خدام أن يشهد، مداورةً، لمصلحة المغفور له رفيق الحريري. لكن شهادته لم تأتِ لمصلحة صديقه المغدور ظلماً بقدر ما جاءت في غير مصلحة رفاقه القدامى والجدد في النظام السوري، ومهينة لشركائه من رجالات الطبقة السياسية الزحفطونية في لبنان.
الزحفطون تعبير منحوت للأديب اللبناني الساخر سعيد تقي الدين، وهو حصيلة دمج رائع لكلمتي "زحف" و"بطن". إذاً هو الزاحف إلى السلطة على بطنه، ويبقى كالزواحف لصيق الأرض، نفسياً وأخلاقياً، حتى لو علت به الرتب.
إن المرء ليعجب كيف أن أفرادا مرموقين من تلك الطبقة مارسوا الزحف على بطونهم إلى دمشق، ملتمسين بأي ثمن وبلا كلل جاهاً أو وظيفة أو دوراً تحت وابل من أوصاف مهينة وشتائم وتهديدات أطلقها أهل السلطة، كباراً وصغاراً، في بلاد الشام على " أقرانهم " من طلاب السلطة، كباراً وصغاراً، في بلاد الأرز ؟! غير أن العجب يزول بعدما يعرف المرء أن حال الطبقة السياسية في سورية، على صعيد الزحفطونية ، هي كما حالها في لبنان. فقد جمعتهما دائما وحدة المسار والمصير.
خدام، الشاهد الملك حسب تعبير ميليس، هو "شاهد شافَ كل حاجـة" حسب رأي اللبنانيين هذه الأيام، بل ربما أيضاً حسب رأي السوريين والمصريين والسعوديين والعرب أجمعين. فقد شاف كل حاجة طيلة 35 عاما من ممارسته السياسية المديدة، لكنه اختار أن يكون أعمى أو متعاميا عن معظم ما رأى، فما شاف إلاّ ما ظنّ أنه ينال، بالدرجة الأولى، من ممارسات رفاقه من أهل النظام في ما يخصّ جريمة إغتيال الحريري. صحيح أن ما قاله أو نسبه إلى الرئيس السوري بشار الأسد ووزير خارجيته فاروق الشرع وغيرهما من ضباط ومدنيين سوريين ولبنانيين قد لخّصه ميليس في تقريره الإجرائي الأول المرفوع إلى مجلس الأمن. غير أن الجديـد والمهـم في الموضوع أن شاهدا برتبة نائب رئيس جمهورية سابق "يتبرع" الآن علنا وعلى نحو غير مسبوق بأن يكون شاهداً أمام الرأي العام ليحاول بشهادته تعزيز عمل لجنة التحقيق الدولية. ومع ذلك فإن الرأي العام في لبنان، بحسب ما دلت إليه استقصاءات أولية أعقبت مقابلة خدام مع فضائية "العربية"، لم يتأثر كثيراً بانتقادات نائب الرئيس السوري السابق لرفاقه القدامى والجدد إذ استفزّ الناس لطرح أسئلة ذكية وساخرة: ماذا كان خدام يفعل خلال الـ 35 سنة الماضية؟ ولماذا اختار الآن أن يكسر صمته؟ وما سرّ هذا التوقيت المريب؟
نعم، لماذا شهد شاهد من أهله اليوم، كما وصفه أنصار الحريري، وهل لشهادته أغراض لبنانية وسورية أم أن الأمر أبعد من ذلك؟
يبدو أن لقنبلة خدام الصوتية ثلاثة أغراض بارزة:
الغرض الأول تعويم التحقيق الدولي بعد سقوطه المريع إثر افتضاح شهادتي الشاهد الموقوف في باريس محمد زهير الصديق والشاهد المقنّع الطليق في دمشق هسام طاهر هسام. أجل، كان التحقيق الدولي قد سقط سقوطًا مريعًا حمل ميليس على إنقاذ سمعته المهنية، وقيل أمنه أيضا، بالعزوف عن تجديد عقده مع الأمم المتحدة. لكن مع "شهادة" خدام استردت لجنة التحقيق الدولية بعض صدقيتها، أو هكذا يبدو، واستعاضت عن الشاهدين المستهلَكين بشاهد ملك يقول انه سمع تهديداتٍ بأذنيه ورأى مطلقيها وضحيتها بعينيه.
الغرض الثاني النيلُ من أركان النظام السوري وإبقاؤه، تاليًا، تحت الضغط لحين تسوية الأوضاع في العراق ولبنان وفلسطين على نحوٍ يؤّمن مصالح الولايات المتحدة. فها هي السيدة نصرت حسن، الناطقة باسم لجنة التحقيق الدولية والمنفذة تعليمات ميليس الذي لم تنتهِ ولايته بعد، تعلن عن رغبة اللجنة في الاستماع إلى إفادة كل من الرئيس السوري ووزير خارجيته بالإضافة إلى عدد من المسؤولين السوريين الأدنى رتبةً. أياً ما سيكون موقف الأسد من هذه الدعوة المريبة، فلا شك في أنها وضعت النظام السوري، مرة أخرى ، في خط الدفاع عن النفس والتحسب لمزيد من الضغوط.
الغرض الثالث إحياء الشكوك، التي لم تهدأ أصلاً، بان وراء الأكمة ما وراءها، وأن قنبلة خدام الصوتية ربما كانت حلقة، أو أن واشنطن ستستغلها لتكون حلقة، في سلسلة مخططها الأكبر الرامي إلى إعادة تشكيل دول المنطقة، سياسيا وثقافيا. باختصار، النظام السوري ما زال في مرمى المدفعية الأمريكية التي تكتفي الآن بإطلاق قذائف سياسية وإعلامية عليه، وقد يأتي يوم يُستعاض عنها بقذائف حربية أو يجري تكليف إسرائيل، في إطار مخطط يرمي إلى تدمير منشآت إيران النووية، القيام بهذه المهمة الإستراتيجية لمصلحة أمريكا وإسرائيل معا.
مهما يكن من أمر، فإن ردة فعل النظام السوري على القنبلة الصوتية الخدامية جاءت تقليدية وباهتة ولا تنم البتة عن أن نخبته القيادية تنبّهت إلى المخاطر التي تواجه سورية في هذه المرحلة وتستوجب إعادة نظر جذرية في سياسة النظام نهجا ومضمونا. فالوعود الإصلاحية ظلّت حبراً على ورق، والموقف من المعارضة الوطنية ظلّ متشككاً ومتحفظاً، واللغة الإعلامية المستخدمة ما زالت ستالينية النبرة بامتياز. كم كان الأمر يختلف لو أن النخبة القيادية توصلت إلى قرار تاريخي بمراجعة تجربـة النظام الشائخ ونقدها وبالانفتاح على المعارضة الديمقراطية، الوطنية والقومية، لتجسير الفجوة بين الطرفين وتوحيدهما في قضيةٍ ومسار وطنيين جامعين، ولكسب كفاءات قيادية جديدة من أجل الإسهام في مواجهة هجمة التدويل الاميريكية؟ أما كانت المعارضـة الديمقراطية، لو جرى الاعتراف بها وبدورها وفعاليتها في مرحلة الإصلاح السياسي والنهوض الوطني، أحرى بأن تتولى هي مهمة الردّ على خدام مذكّرةً إياه بدوره الفاعل في قمعها وإسكاتها طيلة ثلاثة عقود وتحويل "ربيع دمشق" أخيراً خريفاً أصفر؟
لقد سارع أهل النظام إلى اتهام خدام بلغة شبه ستالينية بأنه خائن للوطن والحزب ، فهل كان كذلك طيلة الـ 35 عاما الماضية أم انه أضحى خائناً بمجرد إطلاق قنبلته الصوتية تلك؟
يُروى أن فياشلاف مولوتوف، وزير خارجية الإتحاد السوفياتي في عهد ستالين، زار كليمنت أتلي زعيم حزب العمال البريطاني مهنئاً بعد فوزه المدوّي، غداة الحرب العالمية الثانية، في الانتخابات على زعيـم حزب المحافظين ونستون تشرشل، فمازحه رئيس الحكومة العمالية الجديدة قائلاً:
- كيف تريدنا أن نصدّق أنك شيوعي وأنت تنتمي أصلا إلى أسرة رومانوف الملكية المخلوعة؟ أنا الاشتراكي أصلا وفصلا ولست أنت، لأنني ابن عامل منجم فقير وكادح.
إبتسم مولوتوف وقال له:
- صحيح. إن كلاّ منّا خائن لطبقته!