هو جورج دبليو بوش من ابتدع مصطلح "الفوضى الخلاقة"، لكن هل تراه وحده المسؤول عن خلقها ورعايتها ونشرها في ربوع الكون؟
لا شك في أن لبوش وحكومته دوراً رئيساً ووازناً في توليدها وتعميمها والإستفادة منها. فالولايات المتحدة هي الدولة الأعظم في عالمنا المعاصر، والقطب الأول وربما الأوحد بمعايير القدرة العسكرية والاقتصاد القوي والنفوذ الواسع والثراء الوفير والحركة الفاعلة في أربع جهات الأرض. وهي أكبر مستورد ومستهلك للنفط، لذا هي أكبر ملوّث للبيئة. ومع ذلك فهي أبرز الدول الرافضة توقيع معاهدة كيوتو لحماية البيئة. وهي أقوى قوة عسكرية وأكثرها إنتشاراً في العالم، وأولى الدول في صناعة الحروب وتكثيرها ونشـرها والتسبب في النكبات والكوارث والضحايا البشرية، ومع ذلك فهي الدولة الأبرز والأظلم في رفض توقيع إتفاقية المحكمة الجنائية الدولية.
صحيح أن كل هذه المعصيات مصدرها أمريكا، وان سلوك صاحبتها يفسد الحياة الدولية على جميع المستويات. لكن، هل كان في وسع "العم سام" أن يرتكب كل هذه المعصيات والحماقات والممنوعات في كل زمان ومكان لولا أن معظـــم "الأعمام" و"الأخوال" و "الأنسباء" من دول العالم يشاركه فيها بقليل أو كثير أو يسكت عنها دائماً أو أحياناً؟
لنأخذ، مثلاً، القضية الساخنة التي ينشغل بها العالم حاليًا، أي قضية الملف النووي الإيراني. إن جوهرها يتلخّص بمنع إيران من إمتلاك سلاح نووي. وهو موقف كانت كرّسته معاهدة منع إنتشار الأسلحة النووية. لكن من تراه كان وراء تمكين بعض دول العالم دون سواها من إمتلاك أسلحة نووية؟ أليست فرنسا الأطلسية في منتصف خمسينات القرن الماضي من زود إسرائيل بمفاعل ديمونا الذي أصبح نواة الصناعة النووية الحربية الصهيونية؟
من تراه ساعد الهند وباكستان في ذروة الحرب الباردة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي على إمتلاك أسلحة نووية؟ أليست أمريكا وروسيا والصين من هتك أحكام معاهدة منع إنتشار الأسلحة النووية بتقديمه العون العلمي والتكنولوجي لتينك الدولتين؟
من ساعد كوريا الشمالية على إمتلاك القدرة النووية؟ أليس للصين وروسيا وحتى الباكستان، عبر خبيرها النووي الأبرز عبد القادر خان، دور في ذلك؟
كل هذه الدول مسؤولة بدرجات متفاوتة عن إنتشار الأسلحة النووية، ومع ذلك فإنها لا تقرّ بمسؤوليتها فحسب بل تبدو عاجزة أيضا عن الإتفاق على سياسة عادلة وموحدة في خصوص الملف النووي الإيراني. وهو عجز يستولد فوضى موصوفة في هذا المجال.
فدول الإتحاد الأوروبي، لاسيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا، تتشدد حينا ثم تتراخى حينا آخر. تتفق مع أمريكا على مبدأ منع إيران من التسلح النـووي وتلوّح بعرض القضية على مجلس الأمن الدولي ثم لا تلبث أن تقرر، بالتفاهـم مع واشنطن، على مباشرة مفاوضات مع إيران لإقناعها بتعليق عمليات تخصيب اليورانيوم بصورة دائمة أو مؤقتة لقاء مكافآت ومزايا تكنولوجية تمنحها إياها في ميادين أخرى. لكن ما ان رفضت إيران هذه العروض وانهارت المفاوضات في شأنها حتى تقدّمت روسيا بعرضٍ آخر قوامه أن يجري تخصيب اليورانيوم لمصلحة إيران إنما في داخل روسيا. طهران رفضت العرض أو كادت، فما كان من موسكو إلاّ أن عدّلته بإتجاه إقامة مشروع مشترك روسي – إيراني لتخصيب اليورانيوم في داخل روسيا. طهران لم ترفض المشروع الجديد بل لوّحت بأنها في صدد درسه، وشفعت موقفها المتريث بالدعوة إلى معاودة المفاوضات مع الثالوث الأوروبي ، فماذا كانت ردة الفعل؟ رفضٌ سريع من وزير خارجية بريطانيا جاك سترو بدعوى أن العرض الإيراني فارغ! ما البديل؟ دعوة مجلس أمناء الوكالة الدولية للطاقة الذرية لعقد اجتماع من أجل تدارس مشروع قرار بإحالة الملف على مجلس الأمن من دون تضمينه نصا بفرض عقوبات على إيران.
روسيا والصين تحفظتا على اقتراح الثالوث الأوروبي، وأمريكا أبدت إشارات إيجابية تجاهه مع تمسكها، ضمنًا، بمطلب فرض العقوبات. أما الجديد في موقفها، أو بالأحرى في موقف حزبها الجمهوري الحاكم، فهو تنامي الدعوة إلى استخدام الخيار العسكري. فالسناتور الجمهوري النافذ جون ماكين يخاطب رئيسـه بوش محذّرا: "القول إننا لن نمارس الخيار العسكري في أية ظروف سيكون نوعا من الجنون" !
إن المرء ليحار، هل هي فوضى خلاّقة أو غير خلاّقة تلك التي تطبع مداولات الدول الكبرى في شأن الملف النووي الإيراني أم هو الجنون الذي يدعو ماكين رئيسه إلى ممارسته في معرض التحذير منه؟
لنأخذ مثلاً آخر: التحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وتردّي العلاقات اللبنانية – السورية. فقد ألّف مجلس الأمن لجنة دولية للتحقيق في الجريمـة النكراء، وادّعى جميع الأطراف ، لبنانيين وعربا ودوليين ، أنهم ملتزمون تسهيل أعمال اللجنة توخيا لمعرفة الحقيقة. ومع ذلك يأتي نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني متجولا في المنطقة ليبحث مع زعماء دولها مختلف القضايا العالقة، ومنها مسألة التحقيق المشار إليه. لكن سرعان ما يتبيّن للعالم أجمع أن لا جدوى من التحقيق. فقد صرح آدم ايريلي بإسم الخارجية الأمريكية لقناة "الحرة" الفضائية الأمريكية بأن تشيني حمل إلى السعودية ومصر رسالة واضحة مفادها أن دمشق "لا يمكنها التهرب من دفع ثمن مسؤوليتها عن إغتيال الحريري وفي محاسبة المسؤولين السوريين عن الجريمة، من الرئيس الأسد إلى أسفل الهرم" !
يتحصّل من هذا الكلام ان الحكم بإدانة سوريا قد صدر وان المسألة المطروحة الآن هي "محاسبة المسؤولين السوريين"، أي تنفيذ الحكم، فما الجدوى إذاً من متابعة اللجنة الدولية تحقيقاتها؟ بل ما الجدوى من تصدي الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس حسني مبارك لمسألة تطبيع العلاقات اللبنانية – السورية طالما الحكم بإدانة سوريا قد صدر ولم يبقَ الاّ أن " تدفع سوريا ثمن مسؤوليتها" ؟!
فوضى دولية وعربية بإمتياز، أليس كذلك؟
يمكن دائما القول إن المصالح المتضاربة للأفراد والجماعات والدول هي في أساس الخلافات والصراعات والحروب الأهلية والإقليمية والعالمية، كما في أساس هذه الفوضى الخلاّقة وغير الخلاقة التي تطبع عالمنا المعاصر. لكن أليس صحيحا ومشروعا أيضا الإرتياب في نيّات وقدرات وأخلاقيات أولئك القادة والمسؤولين الذين يحكمون عالمنا، ويتصرفون بمقدراته، ويحكمون في نزاعاته؟
لا يجوز، بطبيعة الحال، أن نضع جميع القادة والمسؤولين في سلة واحدة، ذلك أن بعضهم خيّر وقدير وخلوق ويسعى جهده لحل المشاكل وتحقيق الوفاق وتعميم السلام. ولكن أين قادة العالم اليوم ، خصوصاً على مستوى الدول الكبرى، من أمثالهم في عالم الأمس القريب والبعيد؟ أيّنهم من روزفلت وديغول وشوآن لاي وخروشوف ونهرو وعبد الناصر ومانديلا؟
حتى من يبدو اليوم بين قادة دول أمريكا وأوروبا وغيرها وادعا وواعداً، يخشى المرء أن يفيق غداً فيجد أن الأديب الساخر اوسكار وايلد ربما كان يعني أمثاله من القادة بقولته العصماء: "الفرق الوحيد بين اللص والقس أن الأول له ماضٍ والثاني له مستقبل" !