ينتظر (حميدان) و (سارة) رأي هيئة محلفين من 50 شخصاً في الحكم الذي أصدرته محكمة (كولورادو) بالسجن 120 عامًا لكل منهما على تهم مخالفة نظام الإقامة تلك، إذ طالبت المحكمة الفدرالية بسجنهما 60 عاماً فيما تقدمت محكمة المقاطعة بعقوبة 60 عام أخرى! وَقعُ اسمِ (كولورادو) الأميركية ارتبط عندي يوماً بالجمال. تلك الولاية الجبلية الساحرة كانت بالتأكيد خياراً أمثل لرحلة بريّة صيفية لا تنسى. كان هذا فيما مضى. اليوم (كولورادو) تقترن في ذهني بالطغيان وبالظلم الفاحش اللذان يتعرض لهما أبرياء مثل (حميدان التركي) وزوجه (سارة الخنيزان).
الأخبار التي طالعتنا بها الصحف الأسبوع الفائت أعادت قشعريرة تلك الأيام السود التي حُمّل فيها المبتعثون وزر حماقات تنظيم (القاعدة) عطفاً على الحقيقة المشؤومة وهي كون 15 من أصل أولئك التسعة عشر سعوديون. حينها انطلق عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي (الإف بي آي) كالوحوش ليلفِّقوا شيئاً.. أي شيءٍ.. يرممون به صورتهم أمام الرأي العام وأمام الحكومة الأميركية التي هالها الفشل الذريع لهذا الجهاز الأمني. وكان السعوديون تحديداً من بين باقي المسلمين هم كبش فدائهم المفضل.
خلال تلك السنوات استوعبنا بمرارة كمبتعثين نمط عمل أولئك العملاء – “الفيدز” كما في اللكنة الشعبية – والتي كان قوامها التربص بأي طالب سعودي ذي أي نشاط جانبي ومحاولة إلصاق تهمة له تكفي لاعتقاله أو لاستجوابه على أقل تقدير لأجل الحصول على معلومات ذات أهمية من داخل (التنظيم السري) الذي يراه أولئك العملاء المهووسون في كل جالية إسلامية!
وعليه، فلم يكن هناك فرق في أن يتوجه أحدنا بعدسة آلة تصويره لمبنى مكتبة جورج بوش الأب العامة، أو أن يخطب من على منبر الجمعة بسقوط نظام بوش الابن، أو أن يترك صغاره وحدهم في المنزل لعشر دقائق ريثما يلقي بكيس النفايات في الخارج. جميع تلك الحالات كانت كافية نظرياً ليحظى السعودي المبتعث لأميركا بزيارة من قبل “الفيدز” في تلك الأيام.
نشرات الأخبار والصحف أبقتنا وذوينا في قلق دائم وهي توافينا بأنباء الاقتحامات الليلية المسلحة التي حصلت لمنازل عدد من العوائل السعودية، وللاعتقالات في عرض الشوارع والتي كانت تبررها مجرد شبهات هشة. النصيحة الأوحد التي تلقيناها خلال تلك الظروف التعسة كانت “وجوب توخي الحذر”!
سمعت باسم (حميدان التركي) للمرة الأولى حين قرر مسجدنا في(تكساس) تنظيم مسابقة للقرآن الكريم. ورد اسمه في إطار بحثنا عن جهة راعية للمناسبة. كان (حميدان) مسؤولاً عن (دار البشير للنشر والتوزيع) ذات السمعة الناصعة على مدار نحو عشر سنوات في إنتاج الكتب والأشرطة التعريفية بالدين الإسلامي في أميركا الشمالية بأسرها. الذين قابلوا (حميدان) في (النادي السعودي بكولورادو) قبل اعتقاله يشهدون بكونه آية في الخلق والاحترام. هو كان رئيساً للنادي إضافة لنشاطه في المدرسة السعودية التي ترأسها لمدة أربعة أعوام، كما أنه ترأس مجلس الجالية الإسلامية في بلدته.
لذا فحين وصلت أنباء إلقاء القبض على الرجل لأول مرة في نوفمبر 2004 وذلك إثر اقتحام 30 عنصراً مسلحاً لمنزله بدعوى التحرش بخادمته الإندونيسية فإن السعوديين وسواهم من العرب والمسلمين في أنحاء أميركا تطلعوا لبعضهم وهزوا رؤوسهم في تفهّم واشمئزاز.. فقد ضرب “الفيدز” ضربتهم.. بقذارة لا متناهية هذه المرة.
الخادمة أنكرت بدءاً ثم تعرضت لضغوط طيلة 6 أشهر لتوافق أخيراً على دعوى زور بمضايقتها وعدم تسلمها رواتبها ما أتاح للسلطات اعتقال (حميدان) ثانية ثم إطلاقه بكفالة هائلة ووضعه تحت الإقامة الجبرية مع منعه من الصلاة في المسجد، ثم اعتقاله مرة ثالثة فيما تتخبط زوجه (سارة الخنيزان) وأطفاله الخمسة.
في الواقع فإن (سارة) لم تكن متخبطة. لقد كانت مذهلة في تعاملها مع المأساة وفي تصعيد قضية زوجها لدى الرأي العام وتنظيمها لحملة دعم له وفي تعاملها الاحترافي مع المحكمة ومع الصحافة لتنبيهها للمستوى المنحط الذي وصلته السلطات في ابتزاز (حميدان) ومطالبته بالإقرار بالتهم الموجه إليه مقابل إطلاق سراحه وترحيله لبلاده. في النهاية تم اعتقال (سارة) هي الأخرى لتكون صدمة جديدة للمسلمين الذين تقبلوا ضمناً عدم إقحام النساء في اللعبة القذرة التي يمارسها معهم “الفيدز”. ابن(حميدان) وبناته الأربع تم التحفظ عليهم لفترة كونهم (رعايا أميركيين) بالولادة.
.
زُج بـ (سارة الخنيزان) في السجن، وأُلبست ملابس السجناء البرتقالية، ثم أُحضرت إلى المحكمة بطريقة استفزازية، إذ تم نزع حجابها وكشف وجهها وشعرها قبل أن تسمح القاضية بإلباسها حجاباً إثر احتجاج المسلمين في الجلسة. ليطلق سراحها بكفالة كبيرة ثم يعاد إعتقالها قبل نحو شهرين لأنها خالفت نظام الكفالة حين ألقت السلام على خادمتها – مدار الدعوة- حين قابلتها بالمسجد!!
اليوم وبعد 14 شهراً من الاعتقالات و 1.2 مليون دولار من الكفالات والغرامات المختلفة، ينتظر (حميدان) و (سارة) رأي هيئة محلفين من 50 شخصاً في الحكم الذي أصدرته محكمة (كولورادو) بالسجن لـ 120 عاما لكل منهما على تهم مخالفة نظام الإقامة تلك، إذ طالبت المحكمة الفدرالية بسجنهما 60 عاماً فيما تقدمت محكمة المقاطعة بعقوبة 60 عام أخرى!
القضية تبقى سُبة في جبين القضاء الأميركي، وغصة في حلق كل من يرى في النموذج الأميركي أملاً. هي كذلك شوكة في جنب مشروع الإبتعاث المنتعش والذي لا يسعه بحال تجاوز الخيار الأميركي. لكن وفيما لا يُعقل تحميل الطلبة السعوديين مسؤولية تبعات جرائم (أسامة بن لادن) وزمرته.. تظل الحكومة الأميركية مسؤولة مسؤولية كاملة عن كل وضاعات جهاز تحقيقها الفيدرالي. وحالة (حميدان) و(سارة) تبقى عاراً على الخطاب الرسمي الأمريكي الذي تعمل السيدتان (رايس) و(هيوز) على تجميل صورته المغرقة في القبح.
تظل الحقيقة الشامخة ماثلة أمام سجّاني (الإف بي آي) كالجدار الأصم: لم يتم إثبات تهمة واحدة على أي من السعوديين الذين اعتقلوا ظلماً ثم أطلق سراحهم خلال السنين الماضية بمن فيهم (البدر الحازمي) و (سامي الحصيّن) و (عصام المهند). ولن يكون (آل التركي) استثناءاً بإذن الله.
ما يتعرض له (حميدان) و (سارة)، فك الله أسرهما، يستلزم تدخلاً جاداً من أُولي الأمر الذين نوجه لهم هنا نداء استغاثة حاراً ببذل كل ما يمكن لإنهاء مأساة هذين المواطنين وكل المعتقلين السعوديين بغير وجه حق في سجون أميركا و(غوانتانامو) وربما في زنازين أوروبا السريّة كذلك. وهو نداء يأخذ طريقه تلقائياً لجماعات الضغط الإلكترونية التي يبدو أن التطورات الأخيرة لا تهزها بقدر ما تفعل حفنة رسوم ساقطة لبضع من سفهاء (الفايكنغ).. على نحو يدفع بها للتهديد حتى بحصصها من الزبد وعصير الـ (سن توب)!