إلى فترة قريبة نسبيا كانت أوروبا تمثل في نظر العالم الإسلامي قارة التسامح ومهد التعقل في ميدان العلاقات السياسية والإنسانية التي تمتد حبالها بين الطرفين، وكان التطرف الأميركي في التعامل مع الإسلام والمسلمين والدعم اللامحدود الذي يقدمه للكيان الصهيوني عاملا أساسيا في تأسيس تلك النظرة المقدرة والمستشعرة لحيادية أوروبا النسبية، وقد عمّقت هذا الموقف الايجابي الموازنة بين مواقف أميركا وأوروبا من قضية الصراع العربي الإسرائيلي. غير أن هذه النظرة آخذة في التغير عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ بدأت تقترب كثيرا من الموقف الأميركي المتشدد، كما بدا جليا في تطابق الموقف الأوروبي معه في قضية التعامل مع «حماس»، والتهديد بقطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني ما لم تنصع قيادته الجديدة للرغبات الأميركية.
ومما يضاعف ذلك الشعور بالامتعاض الإسلامي من أوروبا تلك الحماقات التي تمارس تحت غطاء حرية التعبير، وهي حرية تتسع إلى حد السفه والعته حين التعرض للمقدسات الإسلامية بالشتم والتجريح، وتضيق حتى تتلاشى حينما تحاول الاقتراب من دائرة ما يسمى بمعاداة السامية أو التشكيك في مذابح الهولوكست، فدعوى الحرية المطلقة في التعبير عن الرأي التي يحتج بها الساسة الأوروبيون ليست سوى كذبة صلعاء لا يصدقها من له أدنى معرفة بالإعلام الأوروبي الذي تم تطويعه خلال عقود متطاولة بشكل لا يتعرض للمصالح اليهودية إلا بما يعززها ويقويها.
وآخر هذه الحماقات المسيئة للمسلمين تلك الرسومات الساخرة التي نشرت بحق النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في صحيفة «جيلاندز بوستن» الدنمركية اليمينية قبل أربعة أشهر، ثم أعادت نشرها بكل صفاقة مجلة «ماغازينت» النرويجية قبل ثلاثة أسابيع، وقد أثار ذلك موجة من الاستياء والغضب في الشارع الإسلامي الشعبي، وان كان الموقف السياسي للأنظمة يفتقر إلى توحيد الجهود واتخاذ خطوات فاعلة تجعل ثمن هذه الحماقة مكلفا، بما يمنع من تكريرها مستقبلا. ولعل هذا هو الهدف الأساسي الذي ينبغي أن تسعى إليه جهود المقاطعة الشعبية للمنتجات الدنمركية التي تنادى إليها أرباب الحمية والمروءة نصرة لمقام الرسول الأعظم (عليه الصلاة والسلام).
والحق أن التعويل في التصدي لهذه الوقاحة سيكون بالدرجة الأولى على العمل الشعبي، لاسيما بعدما رفض رئيس الوزراء الدنمركي أندرس فوج اسموسن استقبال سفراء إحدى عشرة دولة إسلامية لمناقشة هذه الحماقة الخرقاء، وهو ما دفع اثنين وعشرين ديبلوماسيا دنمركيا من السفراء السابقين الذين عملوا في دول إسلامية إلى انتقاد موقف راسموسن السلبي هذا، قائلين: «إن حرية التعبير يضمنها الدستور غير أن جعلها ذريعة لإهانة أقلية دينية عمدًا ليس من السمات الدنمركية», وبالطبع، فلابد أن نستذكر بالشكر والإشادة الخطوة الشجاعة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية بسحب سفيرها لدى الدنمرك، وحرى بالدول الإسلامية أن تحذو حذوها ليدرك الأوروبيون شؤم هذه الحماقة والأضرار السياسية والاقتصادية التي ستلحقهم إن سمحوا بها مستقبلا، وهو ما يستدعي أيضا اتخاذ الإجراءات عينها في حق النرويج أيضا التي كررت الإساءة عن عمد وإصرار من باب التأييد والمساندة للصحيفة الدنمركية! ألا شاهت الوجوه!
وأما المقام النبوي الكريم فسيبقى رفيعا عاليا لا يضره نباح الكلاب إذ قد تعهد الله برفعه وصونه «ورفعنا لك ذكرك»، وحسبنا قول المتنبي:
أعاذك الله من سهامهم
ومخطئ مَن رميه القمر!