في الوقت الذي تتبجّح فيه بعض الدول الغربية بإحترام الديموقراطية وحقوق الإنسان و عدم الإنسياق وراء المسلكيّة الأمنية في التعامل مع كثير من القضايا و في الوقت الذي تعلن فيه أنّها تختلف جملة وتفصيلا عن المنظومات السياسية والأمنية في العالم العربي , إلا أنّها وفي ممارساتها تكاد تشبه أخسّ الدول المتوحشّة في عالمنا العربي والإسلامي لجهة التعاطي مع الإنسان وأفكاره . وهذه المقدمّة تنطبق تماما على إسبانيا التي أقدمت على إعتقال الصحفي الإسباني السوري الأصل تيسير علوني بأدلة لا ترقى إلى مستوى الأدلة الواقعيّة الملموسة و المادية متهمّة إيّاه أنّه كان على صلة بتنظيم القاعدة بدون دليل اللهم إلاّ إستنادا على بعض المكالمات واللقاءات كان قد أجراها علوني بأعضاء في هذا التنظيم وذلك لغرض مهني بحت , إذ لا يعقل أن يسعى للكتابة عن هذا التنظيم وهو بعيد عنه وتصوراته وأفكاره , وفي تاريخ الصحافة العالمية قصص كثيرة مشابهة لقصّة تيسير علوني الذي وقع ضحية مؤامرة دولية قوامها واشنطن وتل أبيب و مدريد وبعض الدول الغربية والعربية على السواء , فأمريكا لم تعاقب عشرات الصحفيين الأمريكيين الذي عاشوا بين ظهرانيي الثورة الفيتناميّة وكتبوا عن هذه الثورة من داخلها , بل إنّ بعضهم عاش في الكهوف وتحت الأرض مع الثوار الفيتناميين الذين كانوا يلحقون بأمريكا وقواتها العسكريّة ضربات موجعة وقد عاد هؤلاء الصحفيون إلى بلادهم وكتبوا عن مشاهداتهم اليومية في أرقى الصحف الأمريكية , و هناك عشرات الصحفيين الفرنسيين عاشوا في كنف الثورة الجزائرية في أوج قوتها وإلحاقها أقوى الضربات بالجيش الفرنسي في الجزائر , وقد كانت فرنسا تسمي جيش جبهة التحرير الوطني الجزائري الذي قاد الجزائر إلى الحريّة بالجيش الإرهابي و الظلامي المتوحّش وما إلى ذلك من التسميات , وقد تمكنّ هؤلاء الصحفيون من كتابة أروع الكتب والمقالات عن الثورة الجزائرية وساهم بعضهم في إنتاج أفلام تاريخية عن الثورة الجزائرية ما زالت تشكل مرجعا في فهم الكثير من التطورات التي أحاطت بالثورة الجزائرية .
وهناك عشرات الصحفيين تسللوا إلى الثورة الكوبية و عاشروا شي غيفار وبعضهم إقترب من أدولف هتلر وهو الإرهابي الخطير في العرف الأوروبي , و لا أحد كان يحاكم هؤلاء أو يتهمهم بالإرهاب بإعتبار أنّهم يؤدون وظيفتهم والتي تقوم أسسها على جواز الإتصال بالشيطان إذا إقتضت الضرورة الحصول على معلومة تفيد الرأي العام وتخدم الحقيقة التي ينشدها الإنسان في مطلقه , ولأنّ الصحفي القدير يملك تقنية و طريقة معينة في الوصول إلى المعلومة فقد بات رجال الأجهزة الأمنية يخطبون وده لمعرفة منحنيات هذه القضية هنا وهناك , و يبقى الشريف المحافظ على مبادئه وقدسية المهنة هو الذي لا يتورّط مع مثل هذه الأجهزة , و الواقع أن لا فرق بين عمل رجال الصحافة ورجال المخابرات فكلاهما يبحث عن المعلومة , غاية ما هناك فإنّ الصحفي يحصل على المعلومة ويبلّغها للرأي العام , و رجل المخابرات يحصل عليها بطريقته الخاصة ويبلّغ دوائر قرار ضيقة توصلها إلى الدوائر العليا وهكذا وتظلّ المعلومة حبيسة دوائر ضيقة الشيطان لا يعرف ماذا يدور داخلها , وعندما يعجز رجل المخابرات في الوصول إلى المعلومة لأنّ عنوانه مخيف والكل يتوجس منه خيفة فإنّه يلجأ إلى الصحفي القدير ليستأصل منه المعلومة عبر قاعدتي الترغيب والترهيب , وهذا ما جرى مع تيسير علوني الصحفي الذي تمكنّ من مقابلة بن لادن وبسهولة في وقت وضعت فيه المخابرات المركزية الأمريكية ملايير الدولارات لمعرفة مكانه !
وحتى بعض الصحفيين الغربيين الذين جرى إعتقالهم في الغرب بتهمة الإتصال بجماعات إرهابية أو ثورات إرهابيّة جرى إطلاق سراحهم وبرئّوا من التهم المنسوبة إليهم , ففي أواسط الخمسينيات إعتقلت الأجهزة الأمنية الفرنسية الكاتب الفرنسي روبر بارا الذي كتب العديد من التحقيقات عن الثورة الجزائرية حيث تسنى له أن يقابل قادة الثورة الجزائرية ونشر تحقيقاته في صحيفة – تموانياج كريتيان – و أعتقلته الأجهزة الأمنية الفرنسية في فرنسا وطالبته بالكشف عن كل معلوماته وما يعرفه عن الثوّار الجزائريين وأهتزّ الرأي العام الفرنسي لهذه المهزلة , وأطلق سراحه و برئ من التهم المنسوبة إليه وهي الإتصال بإرهابيين .
والشيئ نفسه حدث لجورج أرنو الكاتب و المخرج الفرنسي صاحب كتاب ثمن الخوف والذي حولّه إلى فيلم أيضا وفيه يدين فرنسا ويميط اللثام عن حقيقة حرب الجزائر , وقد جرى إعتقاله بنفس الحجّة وما فتئت السلطات الفرنسية أن أطلقت سراحه .
وعندما إستمات الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر في الدفاع عن الثورة الجزائرية , عرضت الأجهزة الأمنية على الرئيس الفرنسي شارل ديغول إعتقاله , فقال كلمته المشهورة :
لن أسمح بسجن فولتير في عهدي .
و هناك عشرات المحاكمات جرت لصحفيين تمكنوا من محاورة أعداء حكوماتهم ومناوئهم ثمّ برئّت ساحتهم , لأنّ ما يقوم به هؤلاء الصحفيون هو من مقتضيات العمل الصحفي الذي قد لا تستسيغه ولا تتفهمه الأجهزة الأمنية المتعودّة على الكتمان المطلق والسرية الكاملة .
وإذا كان عمل تيسير علوني الصحفي يعّد إرهابا وتواطؤا مع إرهابيين ! فماذا يسمى إحتلال إسبانيا لجزيرتي سبتة ومليلة و جزيرة ليلى أو الباقدونس !
أليس إرهابا أن تستولي دولة بقواتها العسكرية على جغرافيا ليست لها , بل تقر كل المواثيق والشواهد التاريخية و الأدلة المادية أنّها أراضي مغربية قلبا وقالبا , ورغم كل المحاولات التي بذلتها إسبانيا لفصل المغاربة سكان سبتة ومليلة عن أصالتهم المغربية لم تفلح في ذلك .
سبتة ومليلة مغربيتان إسما و مسمى , شكلا ومضمونا , فعلام تمارس إسبانيا الإرهاب في الإحتفظ بهما , وبمجرد أن حاولت الرباط التأكيد على مغربية جزيرة ليلى تحرّك الجيش الإسباني في سابقة خطيرة تذكّر بغزو إسبانيا لبلاد المغرب العربي قبل قدوم الأتراك إلى هذه المنطقة .
وبإسمي كصحفي جزائري أطالب إسبانيا بردّ هذه الجزر وفورا للمغرب , ولتقارن إسبانيا ورئيس وزرائها خوسيه ماريا أثنار بين فعال تيسير علوني و فعالها الإستعماريّة ولتجب عندها : أيّ الفعال تندرج في سيّاق الإرهاب !