في انتظار ما ستؤول إليه الاوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة غداة العملية الديموقراطية التي مارسها الفلسطينيون، والتي اتصفت بالنزاهة والنظافة واحترام الرأي الآخر، وهي العملية التي يعقدون عليها الآمال العريضة لإنهاء الاحتلال الجاثم على وطنهم التاريخي، مصممين على تحقيق اهدافهم في العودة والدولة السيادية وعاصمتها القدس، في انتظار هذا وذاك، ثمة أامور مغايرة تماما تجري على الطرف الآخر للصراع، والمقصود حكومة الاحتلال الاسرائيلي. واستهلالا لحديثنا لقد طالب الجميع " الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي وغيرهم الكثيرون الفلسطينيين بانتهاج الديموقراطية وبرغم ان هناك امورا يفترض ان تسبقها كانهاء الاحتلال وتأسيس الدولة السيادية فقد اقبل الفلسطينيون على صناديق الاقتراع وضربوا مثلا يحتذى وقل نظيره فآتت صناديقهم ديموقراطية لا تشوبها اية شائبة تذكر
*) الا ان رياح ما تمناه هؤلاء المطالبون جاءت على عكس ما كانوا يشتهون، فافرزت واقعا جديدا – كانوا متأكدين انه هو الافراز الوحيد – فانقلبوا عليه أي منقلب ، واصفين اياه انه ارهابي لا يصلح ان يكون شريكا للعملية السلمية ، مهددين – وقد فعلوا – انهم سوف يقطعون عنه كل اشكال المساعدات المادية ، وانهم سوف لن يفاوضوه ما لم يخضع لقائمة اشتراطات وتعهدات وتنازلات واعترافات.
*) واذا كان هذا هو موقف الولايات المتحدة ازاء المشهد السياسي الجديد في الاراضي الفلسطينية ، والذي اعلنت عنه مرارا وتكرارا ، فمن البدهي ان يكون موقف الحكومة الاسرائيلية هو ذات الموقف ، بل اشد منه صرامة وبأسا وحدة وقسوة وحتى شراسة وتطبيقا على ارض الواقع ، فبدأت بتصعيد الممارسات الاحتلالية على كافة الصعد، وليس هذا بجديد عليها ، فهي منذ اول يوم لاحتلالها كان لها هذا التوجه الممنهج ولا يزال.
*) الا ان الممارسات القمعية التي تشهدها الساحة الفلسطينية على ايدي قوات الاحتلال الاسرائيلية في هذه الآونة ، قد اتخذت هذه المرة اشكالا جديدة يمكن الوقوف عندها وقراءتها واستقراء دلالاتها ومراميها وغاياتها وابعادها ، بكل وضوح لا لبس فيه.
*) الشطر الاول لهذه القراءة يتمثل في ان السياسة الاسرائيلية لا تملك حتى الآن افقا سياسيا يمكن للفلسطينيين ان يرنو اليه وهم يحدوهم الامل. وهذه السياسة ظلت متقوقعة عند ثوابتها ، وبمعنى ادق لاءاتها التي ما زالت تشهرها في وجوه الفلسطينيين ايا كان لون الطيف السياسي الحاكم في اسرائيل من العمال او الليكود ، او هذا المولود الجديد المسمى " كاديما " ، فهي مجتمعة او فرادى تجعل من قمع الفلسطينيين سلعة في مزاداتها السياسية . انها اسماء سياسية مختلفة ، الا ان استراتيجيتها واحدة ، ذلك ان التغير شكلي لا يمت الى المضمون الواحد بصلة لقد تعددت الاحزاب الاسرائيلية والاحتلال واحد.
*) اما الشطر الثاني لهذه القراءة فيتمثل في تفعيل سياسة ارباك الفلسطينيين واحباط امانيهم للتحرر من الاحتلال وتحقيق الاستحقاقات الاخرى ، وذلك من خلال زرع عقدة الذنب في نفوسهم كونهم مارسوا الديموقراطية بحذافيرها واحدثوا التغيير الكبير الذي افرزته صناديق الاقتراع الفلسطينية يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني / يناير هذا العام ، وهو تغيير لم ترض عنه اسرائيل ولا اميركا ، وجراءه فان على الفلسطينيين ان يدفعوا الثمن.
*) ويظهر الشطر الثالث من هذه القراءة النوايا القديمة المبيتة في انتظار الظرف المواتي الذي حان في اعتقاد السياسة الاسرائيلية والمتمثل في تطبيق النسخة الثانية من الانسحاب الاحادي على اراضي الضفة الفلسطينية ، والتملص من كل الالتزامات التي تفرضها عليها قوانين الشرعية الدولية وقراراتها المتراكمة.
*) ويمثل شق الصف الفلسطيني وتفريقه اللذان راهنت عليهما السياسة الاسرائيلية الشطر الرابع من هذه القراءة وذلك من خلال استخدام مخرجات صناديق الاقتراع الفلسطينية كمبرر لحملة تصعيد ممارسات احتلالية قمعية – اجتياحات، اغتيالات، اعتقالات، حصارات، حواجز – مصادرة اراض جديدة – مواصلة التوسع الاستيطاني.
*) والشطر الخامس وقد لا يكون الاخير فيتمثل في ان السياسة الاسرائيلية قد وصلت الى قناعة مفادها ان الوقت قد حان لترسيم حدود دولة اسرائيل التي التهمت ما يزيد عن نصف مساحة الضفة ، والتي اصبح مخططها جاهزا ، والتي يحدها جدار الفصل العنصري ، والكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الفلسطينية ، والقدس الموحدة ، والطرق الالتفافية العنصرية ، اضافة الى احتفاظها بمنطقة الاغوار وسيطرتها على مصادر المياه ، والهواء ، والاجواء ، وبذا تكون هذه الحدود قد اكتملت ولو بصورة اولية . ويؤكد هذا ما صرح به مؤخرا " إيهود أولمرت " القائم باعمال رئيس الحكومة الاسرائيلية بان " اسرائيل سترسم حدودها وتنفصل عن الفلسطينيين".
*) اما على ارض الواقع فان هذه القراءات لها ما يؤكدها، وامعانا في خنق الفلسطينيين ، فان الحكومة الاسرائيلية قد جمدت مؤخرا استحقاقا ماليا شهريا هي ملزمة بتحويله للفلسطينيين بحسب اتفاقيات باريس وأوسلو ، والمتمثل في جبايتها الضرائب والضرائب الجمركية على المواطنين الفلسطينيين ، وهذه الجباية تشكل الدخل الذاتي للسلطة الفلسطينية.
*) واستكمالا فاننا نقرأ في الصحف الاسرائيلية عن العسكريين الذين يهددون بتحويل حياة الفلسطينيين الى جحيم ، وأولئك الغلاة من السياسيين والمستشارين الذين ينصحون الحكومة الاسرائيلية " ان تجبر الفلسطينيين الذين يعانون اصلا من الجوع والفقر والبطالة جراء السياسات الاسرائيلية على البدء بتخفيف الوزن " الريجيم " ولكن دون تجويعهم . وتعلق صحيفة " ها آرتس " على هذه النصيحة وتصفها بانها محض اذلال تعامل به حكومة اسرائيل الشعب الفلسطيني ، والذي كان من بين الاسباب التي احدثت التغيير في الخارطة السياسية الفلسطينية.
*) ونقرأ المزيد في صحيفة " يديعوت احرونوت " التي اوردت قصة مشابهة لقصة " الخبز والبسكوت " لامبراطورة فرنسا ماري انطوانيت ، اثناء بداية الثورة الفرنسية ، وهذه المرة على لسان نائبة وزير الداخلية الاسرائيلي " رحوما أبراهام " التي سخرت من الفلسطينيين كما تقول الصحيفة : " ان الازمة الخانقة التي يمر بها الفلسطينيون جراء الاجراءات الاسرائيلية لم تثر أي تعاطف لدى هذه النائبة حين قالت تعليقا على ارتفاع اسعار السكر ومعاناة الفلسطينيين جراء الحصار الاقتصادي الخانق : "اذا لم يجد الفلسطينيون السكر فليأكلوا المربى".
*) وكلمة اخيرة ، ان الفلسطينيين قد اختاروا عبر صناديق الاقتراع طريقهم للايام القادمة ، وهم واعون ومدركون لكافة تبعات خيارهم الديموقراطي الذي برهنوا من خلاله انهم لم يتنازلوا عن ثوابتهم ولن يتنازلوا عنه مهما كانت التحديات التي لم تفارقهم منذ اول ايام نكبتهم . وان تحررهم وحريتهم وزوال الاحتلال من وطنهم ، وسيادتهم في دولة حرة عاصمتها القدس ، وكذلك بقية استحقاقات قضيتهم المقدسة ، ان هذه المنظومة جديرة بمزيد من التضحيات ، حتى وان اصبحت ديموقراطيتهم في مرمى جحيم الاحتلال.