شكلت الحواجز الأمنية بكل أشكالها التي أقامها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ العام 1967 حتى هذه الأيام أحد أخطر أسلحة هذا الإحتلال وأشدها شراسة وفتكا، أشهَرَها ضد الفلسطينيين على مدار الساعة واليوم والشهر والعام مستهدفا النيل من روحهم المعنوية، غير عابىء بكل إفرازاتها الكارثية عليهم، جاعلا منها رمزًا لوجوده الاحتلالي، وفارضًا إياها بقوة السلاح كعقوبة جماعية مستدامة. *) على مدار تسعة وثلاثين عامًا هي عمر الاحتلال الاسرائيلي البغيض، خَبِر الفلسطينيون أشكالا وألوانًا من الحواجز العسكرية في تزايد مع الايام، قارب تعدادها الاربعمائة، أحاطت بمدنهم وقراهم ومخيماتهم، مضيفة أبعادًا رهيبة الى خارطة وطنهم المحتل. فثمة الحواجز الثابتة الدائمة، والحواجز المؤقتة، وثمة المتحركة، وتلك الفجائية التي ليس لها مكان معين أو زمان، وغيرها من نقاط التفتيش. لقد تعددت الحواجز إلا أن إفرازاتها الكارثية واحدة.

*) لقد كانت هذه الحواجز وما زالت سببا رئيسا من اسباب ايقاع كافة اشكال الاذى والمكروه والشر والضرر على الفلسطينيين، وعلى كافة الصعد الجيوسياسية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والصحية والنفسية. وكانت ايضا سببا رئيسا في تدهور اوضاعهم الانسانية ، ذلك انها جعلت من كل التجمعات السكانية الفلسطينية كانتونات معزولة عن بعضها، او بصحيح العبارة معتقلات "جيتوهات" محاصرة مغلقة ومطوقة.

*) على الصعيد الجيوسياسي اتخذ الاحتلال من هذه الحواجز وسيلة لتقسيم الوطن الفلسطيني وتمزيقه وعزله عن بعضه ، والحيلولة دون تواصل اجزائه. والمقصود هنا الشمال الفلسطيني المتمثل بالضفة، والجنوب الفلسطيني المتمثل بالقطاع. وهو بهذا يضع العراقيل في وجه قيام الدولة الفلسطينية التي يطالب بها الفلسطينيون، منتهجا سياسة عدم ربطهما لغايات استراتيجية تتمثل في تأمين قدر كاف من السيطرة والتحكم له. وقد لا يصدق غير الفلسطينيين ان المسافة بين قرية واخرى او بين المدن الفلسطينية تستغرق جراء الاجراءات المتبعة على الحواجز ساعات وساعات ، واحيانا اياما، واخرى تتطلب اسابيع لاجتيازها.

*) وعلى الصعيد الاقتصادي فان هذه الحواجز المقامة كانت وراء عدم تطور الاقتصاد الفلسطيني الذي عانى حالات مستدامة من الخنق والحصار، الامر الذي افرز نسبة عالية من البطالة تجاوزت ال 60 % من القوى القادرة على العمل والراغبة فيه والباحثة عنه.

*) وفي ذات السياق شهدت هذه الحواجز جراء اغلاقها مئات المرات تلف المحاصيل الزراعية الفلسطينية مما ادى الى وقوع خسائر مادية فادحة تكبدها القطاع الخاص والخزينة العامة. وهذا يفسر بما لا يدع مجالا للشك الفقر المدقع الذي يعاني منه الفلسطينيون جراء عدم ازدهار اقتصادهم القائم اساسا على الزراعة – هذا عدا عن مصادرة الاراضي لغايات متعددة - ، وهو امر على ما يبدو مقصود بغية جعلهم يعيشون عالة على ما يقدمه الآخرون من معونات مشروطة، واجبارهم على العمل في المصانع والمزارع الاسرائيلية.

*) ولا تقف الامور عند هذه الحدود. فالحركة التعليمية والانشطة الثقافية والعلمية وقعت هي الاخرى فريسة هذه الحواجز التي يتحكم الاحتلال الاسرائيلي في فتحها واغلاقها تبعا لمزاجه وهواه. ومثالا لا حصرا فقد ضاعت الاف الساعات التعليمية التي خسرها طلاب العلم الفلسطينيون والمسيرة التعليمية في كل مراحلها، مضافا الى كل هذا ما لحق المؤسسات التعليمية من اغلاق وخسران لايام عمل. وهنا فاننا ننوه الى حواجز اقيمت مرارا على مداخل هذه المؤسسات للحيلولة دون دخولها.

*) واستكمالا لقد شهد العالم للفلسطينيين على الدوام اسهامهم المميز وانجازاتهم الرائعة في حقلي الثقافة والعلوم . الا ان هذه الانجازات قد تعرضت مرارا وتكرارا الى نكسات متعمدة جراء اغلاق الحواجز ، الامر الذي ادى الى الحد من هذه الانشطة او الغائها او ضعف المشاركة فيها او تقوقعها محليا ، دون ان يكون هناك تواصل على صعيد المشاركة داخل الوطن او خارجه.

*) الا ان الحديث عما تفرزه هذه الحواجز من آثار اجتماعية صحية ونفسية لا تقل اهمية عن بقية الاثار الاخرى ، بل انها في احيان كثيرة تشكل هما لا يمكن تجاهله او التغاضي عنه . فعلى الصعيد الاجتماعي ، فانها بالاضافة الى الحصارات والاطواق الامنية والاغلاقات وحالات منع التجوال المتكررة ، لعبت ادوارا خطيرة في تكريس عزلة الفلسطينيين عن بعضهم ، وحالت دون تواصل الاهل والاحبة والاصحاب ، او مشاركاتهم لبعضهم في افراحهم واتراحهم ، وهي حقوق انسانية لا يختلف عليها اثنان.

*) ورحلة الآلام الفلسطينية لا تنتهي ، ذلك ان هذه الحواجز تفرض عليهم الانتظار المرهق لاعصابهم ، وتجبرهم على السير على الاقدام في ظروف مناخية صعبة ، وتستهدفهم في اعاقة طواقم اسعافهم ، وفي صحتهم الجسدية بشكل مباشر . فجراء سوء الاحوال المعيشية الناجمة عن ممارسات الاحتلال ، فان الصحة العامة للمواطنين تتأثر سلبا ، ويصبح التنقل بين القرى والمدن والمدن الاخرى بغية العلاج الاكلينيكي والسريري امرا يوميا ملحا وضروريا.

*) وحقيقة لا يخالطها ادنى شك تخص هذه الحواجز والحصارات التي تقف للمرضى من الشيوخ والاطفال ، وللنساء الحوامل بالمرصاد . فهي من ناحية معيقة ، ومن ناحية اخرى مانعة و صادة لاي تحرك . وعلى مدار تسعة وثلاثين عاما منذ العام 1967 ، مات المئات من هؤلاء المرضى ، واجهضت المئات من الحوامل عند هذه الحواجز على مرأى من جنود الاحتلال غير المكترثين ولا الآبهين الذين تتحكم في نفوسهم مشاعر الانتقام والتشفي والحقد والكراهية والسخرية والاستخفاف ، في خرق فاضح لابسط حقوق الانسان والمواثيق الدولية.

*) والى هنا فانني سوف انهي حديثي عن الصعيد النفسي وكل ما يخص الكرامة الانسانية المنتهكة عند هذه الحواجز بملخص مقابلة اجرتها صحيفة " القدس " المقدسية يوم الجمعة الثالث من آذار / مارس، العدد 13123، مع "ماري كريستيان" وهي متطوعة فرنسية تعمل في مجال التدريب المدني في الاراضي الفلسطينية، وذلك بعد ان علقت ساعات طوالا عند حاجز حوارة / نابلس، المدخل الجنوبي، وهو واحد من عدة حواجز تحاصر نابلس.

*) حينما سألها الجندي: لماذا انت ذاهبة الى نابلس ؟. قالت ماري كريستيان انها تحب نابلس. فقال لها هذا الجندي على الفور "ايضا انا احب نابلس، ولكن بدون اهلها. وتسرد ماري بعض مشاهداتها لذلك اليوم عند الحاجز" لقد اجبر الجنود الاسرائيليون شبانا فلسطينيين على الوقوف رافعين اياديهم الى الاعلى ووجوههم الى الحائط، بعد ان تم تجريدهم من ملابسهم العلوية، وابقائهم بالملابس الداخلية على مرأى من اهاليهم وابناء وطنهم.

*) وتواصل ماري حديثها " ولم يكتف هؤلاء الجنود بما اقترفوه من اذلال واهانة في حق هؤلاء الشبان المساكين ، بل انهم انهالوا عليهم ضربا بالهراوات واعقاب البنادق وسط عاصفة من الشتائم والمسبات بالفاظ نابية تمس عامدة متعمدة المشاعر الانسانية . وتختتم ماري كريستيان كلامها " ان من يشاهد هذا الحاجز- حتى لو لم يكن متضامنا مع ابناء الشعب الفلسطيني – فانه سيصبح حتما متضامنا معه وهو يواجه كل هذه الاجراءات.

*) وكلمة اخيرة، لقد كانت هذه الحواجز الاحتلالية التي تحاصر كل التجمعات السكانية الفلسطينية وما زالت رمزا لاحتلال بغيض مفروض بالقوة الغاشمة. ان الممارسات اللاانسانية التي يعامل بها الفلسطينيون عندها ما هي الا سيناريو يومي مادته منظومة عقوبات جسدية ونفسية مخطط لها ومبرمجة . وهي تتنافى مع كل الشرائع السماوية والارضية ، والاهم من ذلك انها لا تشكل مدخلا او منطلقا لاية عملية سلمية محتملة كونها ملتفة على طريق السلام العادل والمشرف.
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية