ربما لا يروق عنوان المقالة لكثيرين ممن يرون في الغرب أنموذج التحضر المنشود ومثال التقدم المأمول، وما ذاك إلا لاختلاف الناس في تحديد المقصود من مصطلح التحضر، فالحضارة المادية مهما ارتقت وعلت لا تمنح لأهلها صكا موثقا يشهد لهم بالتحضر ما لم يقترن ذلك التفوق المادي بسيادة القيم الانسانية الراقية وقيادة المثل الآدمية العليا التي يصير الإنسان بالتزامها إنسانا كاملا، إن احدى أبرز سمات التخلف الغربي تكمن في حاكمية تعامله الحضاري، إذ لا مكان للقيم والأخلاق في التعامل مع شعوب الأمم الاخرى إلا حين يكون الالتزام بها سببا الى تحقيق مصلحة مادية جليلة، فإن أمكن تحصيلها بذلك الالتزام فلا ضير، إذ لا صوت يعلو على صوت المصلحة المادية في التعامل الغربي!
وحسبك بأحداث سجن أريحا الأخيرة دليلا على التدهور القيمي الذي يعاني منه الغرب، فقد عرّت تلك الحادثة صورة الغرب في عيون العالم أجمع، لم يكن حراس السجن الفلسطينيون المغلوب على أمرهم الوحيدين الذين تمت تعريتهم بالقوة، فحتى الغرب تخلى عن ثياب الوفاء والأمانة ولكن بمحض إرادته من دون تهديد أو ترهيب,
فالتواطؤ المفضوح الذي تم بين المتعهدين الدوليين بحماية السجناء والكيان الاسرائىلي لم يبق لأحد ذرة من ثقة في صدقية الغربيين وجدية عهودهم وبراءة ذممهم، مهما حاولوا اثبات انهم طرف محايد مأمون في قضية الصراع العربي ـ الاسرائيلي،إذ انسحب الحراس البريطانيون والأميركيون قبيل اقتحام قوات الاحتلال الاسرائيلي السجن بسويعات ومن ثم تم اعتقال المناضل أحمد سعدات ورفاقه، وقد حاول وزير الخارجية البريطاني نفي ذلك التواطؤ والتنسيق غير ان الاسرائىليين لم يترددوا لحظة في تكذيب دعواه حين أكد رئىس الوزراء الاسرائىلي وجود ذلك الاتفاق بين السجان وناقض حيطان السجن!
إن الأمر لا يمثل مفاجأة للذين يعرفون الطريقة التي يسوس بها الغرب شؤونه الخارجية لاسيما حين يكون العرب والمسلمون طرفا في ذلك التعامل، ولم يكن هذا أول عهد والتزام ينكثه الغربيون ولن يكون الاخير بالطبع، فلنا معهم قصة مريرة تتغير شخوصها ولا تتبدل أحداثها، ألم يفعلها الهولنديون في سبرنتشا (البوسنة) العام 1995 حين أعلنت الأمم المتحدة تلك المنطقة المنكوبة ملاذا آمنا للبوسنيين المستضعفين حتى إذا ما تجمع اولئك البؤساء في ذاك الموضع حان فيه حينهم، وتسللت عصابات الصرب لتعمل فيهم قتلا وذبحا حتى ازهقت ما يربو على عشرة آلاف نفس بريئة؟! وكان ذلك بمرأى ومسمع اولئك الحراس المؤتمنين!
لقد بات واضحا للعيان ان مناداة الغربيين بقيم الديموقراطية وحقوق الانسان والعدالة لا تنطلق من ايمان صادق بها، فإذا ما تعالى هتافهم لها، فإن وراء ذلك مصالح كبيرة خاصة بهم، وهذا ما يفسر سياسة المعايير المزدوجة إذ تُغزى بلاد تحت ذريعة نشر الديموقراطية وحقوق الانسان في الوقت الذي يمد الغرب يده بالعون السخي لأنظمة ديكتاتورية فاسدة على رأسها طغاة جبابرة، لأن في ذلك ما يخدم مصالحهم وأهدافهم, وحين تؤله الحضارة المادة على حساب الروح، وتحكم شؤونها منفعة المصلحة ولو ضحت في سبيلها بالمبادئ الإنسانية والقيم الروحية، فهي حضارة متخلفة مهما ناطحت عمائرها عنان السماء، فبالروح ترقى الحضارات لا بالماء والطين!