«ما انفك» قلمي و«ما برح» مدادي يكتب هذا الكلام عشية كل قمة مرتقبة من دون يأس أو ملل، ليس لاعتقادي بأن كلماتي ستسمع من به صمم، ولكنني انفث ما بصدري وبصدور العربان العاجزين أمثالي، فلا بد للمصدر من أن ينفث، وإن كانت نفثاته قد «أضحت» كخبر كان! ربّما كانت قضية «كان» وأخواتها أسأم شيء درسته في حياتي، لا لشيء سوى أنه أمر قرع مسمعي مرارًا ولهج به لساني حتى جف ريقه، فقد لقنتها تلميذا في المدرسة، ثم لقنتها التلاميذ في المدرسة، ثم لاحقتني إلى الجامعة في قاعة المحاضرة وأوراق الامتحان، وخلت أنني سأفلت من قبضتها حين أنطوي في كسر بيتي، فإذا بها تقتحمه عليّ حين يسألني أبنائي عنها، وحق لهم أن يسألوا، فبيني وبينها وداد لا ينقطع! ولقد كشفت لي الأيام أن لـ «كان» نظيرا هو أشد منها سآمة وضجرا، بالطبع «إن» وأخواتها كما قد يسبق الى ذهنك، فعلى الأقل ثمة ضوابط محكمة قواعد دقيقة تحكم سلوك هاتين العائلتين اللغويتين، غير أن عائلة القمم العربية التي باتت تعقد سنويا بطريقة دورية لا تعرف غير الإخفاق ضابطا!
واليوم تنعقد قمة الخرطوم التي لا أعرف ترتيبها العائلي في أسرة القمم، لكن ما اعرفه أنا وكثيرون غيري أنها لن تقدم للعرب شيئا عمليا يخفف من آلامهم وينتشلهم من بحر ظلماتهم الأزلي، فقد «كان» هذا ديدنها الذي لم تنجح حتى الآن في تغييره أو تجميله، ولعل مما يثير السخرية فعلا أن ثمة طقسا جديدا بدأ يأخذ مكانه بين طقوس القمة المتكررة، إذ جرت العادة أن تروج التكهنات والتوقعات عن الذين سيحضرون القمة أو سيغيبون عنها من القادة العرب، وكأن اجتماع القادة كلهم قد أصبح إنجازا يحسب للقمة, وحسبك بذلك دليلا على سوء الحال وتبخر الآمال.
وإذا كانت القمم تعقد في الأصل لتأسيس إجماع أو توافق عربي بشأن قضايا الأمة المصيرية، فإنها في ظل هذه الظروف لن تكون كذلك، فالوحدة القومية «أصبحت» حلما محفوظا في متحف الوعي العربي تطوف به أجيالنا القادمة لتتعرف على إغراق الأجداد الطيبين في أحلامهم الوردية الخيالية ! لأننا الآن نشهد نزعة تقسيمية تجتاح الكيانات العربية، فالدولة المضيفة للمؤتمر السودان قد أوشكت على أن تفقد جنوبها بطريقة رسمية، وفي اقليم دارفور ثورة انفصالية متعاظمة، وفي شرقها شعور متململ قد يتحول إلى مشروع انفصالي ثالث! وأما العراق فشبح التقسيم الطائفي والعرقي يخيم عليه، فالشمال الكردي «أمسى» مستقلا بذاته، وفي الجنوب دعوات متكاثفة تدعو لشطره عن العراق وفق أساس طائفي وفق شعار «نفط الجنوب للجنوب» بعد ان «ظل» شعار «نفط العرب للعرب» الشعار القومي الرائج! وثمة انقسامات سياسية خطيرة تترسخ بين مكونات السلطات العربية، ففي لبنان يقف رئيس الجمهورية في جانب، وتقف الحكومة المعارضة في جانب آخر، والسجال الكلامي العنيف «لا يزال» بينهما محتدما ومنذرا بالأسوأ في ظل تدخلات خارجية مكشوفة, وفي فلسطين أضحوكة مبكية، سلطة منتخبة لا تتمكن من إيصال صوتها للقمة، اذ يتولى تمثيل الشعب الفلسطيني في القمة الذين أخفقوا في الفوز بثقته انتخابيا، ومن يطالع النداء الذي وجهته حركة «حماس» للمؤتمرين يدرك حجم اليأس الذي يتملك القلوب، فـ «حماس» لا تريد عونا لأنها تعلم انها لن تحصل عليه، لكنها تأمل من القمة ألا تتخذ قرارات تعرقل مشروعها السياسي الجهادي، فالمطلوب بصريح العبارة: «كفاية شر لا أكثر ولا أقل»!
و«ما انفك» قلمي و«ما برح» مدادي يكتب هذا الكلام عشية كل قمة مرتقبة من دون يأس أو ملل، ليس لاعتقادي بأن كلماتي ستسمع من به صمم، ولكنني انفث ما بصدري وبصدور العربان العاجزين أمثالي، فلا بد للمصدر من أن ينفث، وإن كانت نفثاته قد «أضحت» كخبر كان!