قرأتُ محضر "المشادة" أو السجال بين رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس الـوزراء فؤاد السنيورة في الجلسة المغلقة لقمة الملوك والرؤساء العرب في الخرطوم، فكنت أضحك لمفارقات وأبكي لأخرى تخللتها الجلسة المذكورة. السنيورة كان ذهب إلى الخرطوم، كما صرّح لوسائل الإعلام او كما نَسبت هي إليه، من أجل إجراء إتصالات مع القادة العرب في شأن قضية لبنان، وأنه فعل ذلك بناء على طلب أركان مؤتمر الحوار الوطني اللبناني في جلسته الأخيرة. ربما طلب هؤلاء الى السنيورة إجراء إتصالات مع أقطاب القمة العربية، لكن هل طلبوا إليه التنديد بلحود والترويج لدعــوى "عدم شرعية" بقائه في منصبه؟ إن نحو نصف عدد أقطاب مؤتمر الحوار الوطني لا يوافق على مقولة "عدم شرعية" لحود ، فهل يجوز ان يدّعي السنيورة انه يعبّر في القمة عن رأي مؤتمر الحوار الوطني؟ هذه واحدة.
السنيورة ذهب الى القمة ورفض الجلوس وراء لحود في عداد أعضاء الوفد اللبناني، بل طلب ان تكون له طاولة خاصة يجلس وراءها بصفته رئيس الحكومة اللبنانية، فلم يستجب الأمين العام للجامعة عمرو موسى طلبه، وكان ان امتنع عن المشاركة في جلسة افتتاح القمة. من حق السنيورة الإمتناع عن الحضور، لكن ليس من حقه ان يشكّل وفداً كي يتمثل لبنان بوفدين. فهل إستأذن مجلس الوزراء بذلك أو أحاط مؤتمر الحوار الوطني علماً بإعتزامه إتخاذ هذه الخطوة، مع العلم أن القمة العربية هي مؤتمر للملوك والرؤساء وليست مؤتمراً لرؤساء الحكومة ؟ هذه ثانية.
السنيورة طلب الكلام في الجلسة المغلقة وطالب بتعديل مشروع القرار المتعلق بلبنان بحيث يصار الى حذف عبارة "التأكيد ان المقاومة اللبنانية هي تعبير صادق وطبيعي عن حق الشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع عن كرامته في مواجهة الاعتداءات والأطماع الإسرائيلية" بحيث يستعاض عنها بالعبارة الآتية: "التأكيد على حق الشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع عن كرامته ... بكلام آخر، طلب السنيورة حذف عبــارة "المقاومة اللبنانية" وعبارة "الاعتداءات والأطماع الإسرائيلية"! فهل طلب منه اركان مؤتمر الحوار الوطني فعلاً حذف تينك العبارتين بعدما كانوا اتفقوا في إحدى جلسات الحوار على ان المقاومة حق مشروع لتحرير الأرض المحتلة ؟ هذه ثالثة.
السنيورة قال، في معرض رده على مداخلة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقه، ان إصرار الملوك والرؤساء على عبارة تأييد المقاومة كما وردت في النص "قد يؤدي إلى وقف الحوار الوطني في لبنان لأنه يظهر القمة وكأنها مع فئة ضد أخرى"، فهل صحيح ان أركان مؤتمر الحوار الوطني سوف يختلفون ويوقفون الحوار إذا ما تبنّت القمة العربية نصا يدعو إلى تأييد المقاومة اللبنانية؟ هذه رابعة.
لحود ذكّر السنيورة بأن النص المراد إعتماده هو نفسه ورد في البيان الوزاري لحكومته الذي نالت الثقة على أساسه، فرد السنيـورة:
"ولكن تغيّرت الأحوال وهناك حوار". فما معنـى عبارة "تغيرت الأحوال" ؟ هل انسحبت إسرائيل من منطقة شبعا، وما عاد للمقاومة دور في تحريرها؟ وهل إذا جرى حوار في البلد، فإن ذلك يستوجب تعليق ما تمّ الإتفاق عليه في شأن المقاومة بين أركان مؤتمر الحوار أنفسهم، عند إنعقاد القمة العربية، علماً ان البيان الوزاري لحكومة السنيورة كان قد تضمّن موقفاً مؤيداً للمقاومة وجرى منحها الثقة على أساسه؟ هذه خامسة.
الحقيقة أنني حزنت على السنيورة وعلى عقلية أصدقائه الذين أشاروا عليه بأن يركب هذا المركب الخشن على مرأى ومسمع من الملوك والرؤساء جميعا. كما حزنت على ما آل إليه الوضع في لبنان وسط المخاطر والتحديات التي تواجهه والمنطقة برمتها في هذه الحقبة.
حزنت على السنيورة الذي لا يفتأ يقول انه قومي عربي ولا يقبـل بأن "يفحص دمه" احد ليتأكد من عروبته وحرصه على المقاومة، فإذا به يتحدى إجماع الملوك والرؤساء ليحذف عبارة لمصلحة المقاومة كان أوردها في البيان الوزاري لحكومته، ثم جاهر بتخليه عنها بدعوى ان الأحوال تغيّرت وان هناك حواراً لم يحسم قضية المقاومة بعد!
حزنت على ما آل إليه الوضع في لبنان حيث طغت مصالح وثارات وعنعنات شخصية على عقول البعض من حكامه وزعمائه لدرجة ضاع معها الحس الوطني والمنطق السليم والصالح العام.
حزنت على مصير الحوار الوطني الذي هزته ، دونما شك ، فعلة السنيورة في مؤتمر القمة وسوف تنعكس سلباً على علاقات الأقطاب المتحاورين أنفسهم وعلى معالجة الأزمة اللبنانية ومضاعفاتها السياسية والاقتصادية في زمن الهجمة الأمريكية الفاجرة على لبنان وفلسطين وسوريا والعراق والسودا ، وعلى الأمة كلها ، بل على "الإسلام الراديكالي" كما أعلن جورج بوش في خطاب "حال الإتحاد" أمام الكونغرس الأمريكي.
لعل أخطر تداعيات فعلة السنيورة إهتزاز ثقة الأقطاب المتحاورين ببعضهم بعضا، وإنكشاف عدم قدرة او ربما عدم رغبة بعضهم في الإلتزام بما جرى الإتفاق عليه. لقد أكّد الأقطاب المتحاورون انهم اتفقوا على ان المقاومة حق شرعي للبنانيين يمارسونه من أجل تحرير أرضهم المحتلة ، فإذا بفريق منهم لا يتورع عن ان ينكث بعهده ويجهر بذلك في رائعة النهار وفي أعلى محفل عربي. فهل من صدقية بعدُ لهؤلاء، وهل من سبيل إلى رأب الصدع والعودة إلى حوار يفضي فعلاً الى إتفاق يلتزمه افرقاؤه المتقلّبون؟
كان فريق من الأقطاب المتحاورين يطرح دائما مسألة رئاسة الجمهورية ويطالب بإستقالة الرئيس اميل لحود كمدخل أساس لحل الأزمة المتفاقمة . اليوم أرى ان المدخل الصحيح لولوج حوارٍ وطني مسؤول بغية معالجة الأزمة إنما يتمثل في التوافق على حكومة وطنية جديدة جامعة تتمثل فيها بصورة متوازنة جميع القوى السياسية الفاعلة ، داخل البرلمان وخارجه، وتُمنح سلطات استثنائية كي تتمكن من وضـع القوانين وتنفيذ القرارات والإجراءات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته ومحنتـه ، وتكون جديرة بأن تتحمل المسؤولية الكاملة إزاء ثلاث قضايا شديدة الأهمية:
• التوافق على قانون جديد للإنتخابات يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته وذلك بإعتماد النسبية وتحديد النفقات الإنتخابية والإستخدام المتساوي لوسائل الإعلام والإعلان.
• إجراء الانتخابات القادمة وفق قانون الانتخاب الجديد وعلى نحوٍ يؤمن الحرية والنزاهة ليكون مجلس النواب الجديد بمثابة جمعية تأسيسية ، تعيد تأسيس لبنان دولةً ووطناً.
• الإضطلاع بصلاحيات رئيس الجمهورية في حال إستقال الرئيس لحود أمام مجلس النواب الجديد قبل إنتهاء ولايته أو بعد إنتهائها، إذْ قد تتعثر عملية اختيار رئيس جمهورية جديد او قد تطول الأمر الذي يستوجب وجود حكومة قادرة وعادلة وجديرة بان تناط بها صلاحيات رئاسة الجمهورية إبان شغورها ولحين إنتخاب رئيس جديد.
هل من سبيل آخر لمعالجة الأزمة المتفاقمة ؟