قبل وقت قصير من أعياد الميلاد أي في كانون الأول من عام 2005، نشرت النيويورك تايمز أسرارعملية التجسس المحلية الكبيرة داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي ربما طالت الآلاف من المواطنين الأمريكيين أنفسهم. وكشف الكثير من الحقائق عن هذه العملية تباعا في الصحف اليومية بما فيها تقارير عن تنصت على الهواتف والرسائل الإليكترونية بالمئات من قبل وكالة الأمن القومي. لقد حاول أركان الإدارة الأمريكية بما فيها وكالة الأمن القومي تبرير ما تم بأنه تم في زمن الحرب وأنهم يواجهون عدوا شرسا ولذلك لا بأس من انتهاك القوانين. لقد كان رد فعل الشارع الأمريكي كبيرا وعلى إثر ذلك تعهد الكونغرس بأن يفتح تحقيقا في الأمر.

فأول من كتب عن الموضوع كل من إيريك ليكتيبلو وجيمس ريزين. وتم تغطية تفاصيل العملية واسرارها أيضا في كتاب جيمس ريزين الجديد "حالة حرب: التاريخ السري للسي آي إيه وإدارة بوش،"
State of War: The Secret History of the C.I.A. and the Bush Administration
الذي تم نشره في يناير من هذا العام. لقد ورد في مقدمة الكتاب "لأول مرة منذ فضيحة ووتر غيت، تقوم وكالة الأمن القومي بالتجسس على الأمريكيين أنفسهم مرة ثانية وعلى نطاق واسع." و"لقد نحّت إدارة بوش جانبا ثلاثين سنة تقريبا من القوانين واللوائح وأعادت وكالة الأمن القومي سرا إلى العمل في التجسس الداخلي."

لقد سبب هذا الكتاب حراكا وقلقا كبيرين بين الرسميين والعامة من الناس قبل أن يقرأوه. فالمحافظون الجدد سخفوا الكتاب قبل أن يصل إلى الناس وقبل أن يرى أحدهم أي نسخة من الكتاب. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب أي بسبب الهجوم عليه قبل أن يقرأه الناس. وكذلك بسبب تحفظ الناشر (سايمون وشستر) على الكتاب وتأخير تسويقه لأنه ليس من المألوف أن يكون الكتاب سببا في نشر النيويورك تايمز فضيحة التجسس في البيت الأبيض بعد وصولها إليها بسنة حيث كان بإمكان النيويورك تايمز إفشاء القصة قبل انتخابات 2004 لإبعاد أكبرعدد ممكن من الناخبين عن بوش.

ولم يجد المحرر العام للنيورك تايمز (بايرون كالامي) في مقالته المنشورة في الأول من يناير بعنوان "ما وراء قصة التنصت صمت مريع،" تفسيرا لماذا أخفت النيويورك تايمز القصص الأولى واللاحقة المتعلقة بالتجسس والتنصت اللاقانوني واللاالشرعي لوكالة الأمن القومي بأوامر من بوش.

مع التغطية الإعلامية المركزة التي لا تنتهي ومع الأحداث المتلاحقة التي تأخذ بالأنفاس والتحقيقات المستقلة وغير المسبوقة من قبل الكونغرس، من الصعب علينا أن نعتقد أنه ليس هناك كماًّ من الحقائق الهامة المخفية حول رئاسة جورج بوش التي لا نعرفها بعد. وربما يقبع تحت كم هذه المعلومات الرئاسية أيضا تاريخ سري – أي سلسلة من الأحداث السرية التي تجعل من الجدل الجاري في الكونغرس أكبر نكتة ومجرد ضحك على الذقون.

وهذه الأسرار تشمل التجسس الداخلي وإساءة استخدام القوة والعمليات المستفزة. وتشمل أيضا مواقف وكالة الاستخبارات المركزية ((C.I.A. التي وقعت في مرمى النار عند الساسة. وكذلك تشمل أيضا أداء وزارة الدفاع التي صنعت سياستها الخارجية الخاصة بها التي كانت في بعض الأحيان ضد رغبة بوش نفسه. وهذه الفترة تميزت بوجود رئيس ضعيف ضرب من حوله ستار من الإنكار مما جعله يعتمد على مساعديه الكبار في الحصول على المعلومات والأحداث حول القضايا الحساسة والخطيرة جدا. وفي معظم الأحيان ترك جاهلا عن قصد ودراية، بما يدور حوله تماما. فهذا الكتاب يكشف التاريخ السري لأول مرة بما فيه القضائح التي ستعيد تحديد رئاسة بوش.

لقد قام جيمس ريزين بتغطية الأمن القومي في صحيفة النيويورك تايمز لسنين عديدة معتمدا على مصادر غير عادية تتألف من مسؤولين كبار وصغار في واشنطن وحول العالم وعبر مقابلات مع مسؤولين كبار في دوائر الأمن القومي وهذا الكتاب يكشف سلسلة متفجرة من الأحداث:

• دخلث إدارة الأمن القومي في برنامج التجسس الداخلي منتهكة القانون دون بعد نظر وحساب للعواقب.
• لقد ضربت الإدارة ستارا من الإنكار في حالة القضايا الحساسة مثل استخدام التعذيب في السجون مثل أبو غريب. لقد تم توصيل المعلومات لمستشاري الرئيس الكبار ولم تصل الرئيس نفسه.
• لقد قامت الولايات المتحدة نفسها فعلا بتقديم تصاميم القنبلة النووية لإيران.
• لقد كانت الاستخبارات المركزية تملك دليلا قاطعا على أن العراق لا يملك برامج أسلحة نووية أثناء الحرب على العراق. لقد أخفت دوائر السي آي إيه هذه المعلومات واحتفظت بها لنفسها.
• لقد أصبحت أفغانستان أكبر دولة مصدرة للمخدرات في العالم حيث تشكل 87% من سوق المخدرات في العالم تحت سمع وبصر الأمريكيين. لقد أورد الكتاب بضعة قصص أبعد من هذه التفصيلات المريعة. يصف الكاتب نماذج مقلقة: الباحثين عن الحقيقة في الاستخبارات المركزية تم طردهم أو تجاهلهم. تم تجميد العمل بقوانين ولوائح تم العمل بها لمدة طويلة. تم تدريب فرق الاغتيالات وتم تدشين جرائم الحرب.

ولم يحدث أن تسرب من سوء استخدام قوة الاستخبارت المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي منذ السبعينات الكثير من الفضائح في مجتمع الاستخبارات. وأكثر من ذلك إن الكتاب يظهر كم من القوة استخدمت أو تم توظيفها من أجل رئاسة بوش.

مع أن معلومات السيد ريزين عن وكالة الأمن القومي لا تأخذ إلاّ فصلا واحدا في كتابه ، إلاّ أنها لا تزال تعتبر النقطة الأساسية والهامة في كتاب يضيء على الحقائق حيث يركز على أداء إدارة بوش أو إساءة استخدامها للقوة على مدى الأربع السنوات السابقة. إنه سجلها حافل بالانتهاكات والمخالفات والأخطاء، كما يقول الكاتب، إلى حد أنه تسبب في احتجاج بوش الأب الرئيس الأسبق. ينقل الكاتب محادثة دارت بين الأب والأبن في عام 2003 حيث أغلق الرئيس الإبن السماعة في وجه والده بغضب. يقول الكاتب:"لقد كان (الأب) منزعجا من ابنه الذي سمح لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد ولمجموعة المحافظين الجدد يمارسون تأثيرا واضحا على السياسة الخارجية وبخاصة في العراق."

ومن بين الأسئلة، التي لا جواب لها، هي الخاصة بقصة التجسس الداخلي:إذا تم الحصول على هذه المعلومات الخطيرة منذ سنة، لماذا انتظرالسيد ريزين وصحيفة النيويورك تايمز كل هذه المدة حتى قبل بضعة أسابيع على نشر الكتاب لتنشر هذه الأسرار والفضائح؟ ولكن في النهاية استحوذت المقالات الإخبارية على فصل خاص بوكالة الأمن القومي في الكتاب تاركة القليل الذي لم ينشر بعد.

ومع ذلك يتبقى في الكتاب الكثير للعرض. فمثلا بالنسبة إلى احتمال تورط السي آي إيه في التعذيب، وجد الكاتب الدليل على أن اتفاقا سريا بين كبار الرسميين في على إخفاء المعلومات عن بوش وعزله عن الحقائق وكفاه الإنكار عندما يسأل عمّا يتعلق بوسائل التعذيب والتحقيق الرهيبة. وعلى الرغم من الحاجة الماسة للمعلومات الاستخبارية عن إيران، يقول الكاتب بأن ضابطا للاتصال في السي آي إيه أرسل صدفة معلومات كاملة عن عمل الوكالة وعن شبكة التجسس للسي آي إيه إلى عميل مزدوج بالخطأ في طهران. "الإيراني الذي استلم المعلومات كان فعلا عميلا مزدوجا،". "فهذا الخطأ مكّن الإيرانيين من معرفة شبكة السي آي إيه في إيران،" يقول الكاتب، مع أن السي آي إيه تنكر التفاصيل.

يزودنا الكتاب أيضا بنظرة قريبة كيف كان على جورج تينيت مدير السي آي إيه، صاحب السيجار، أن يقرر الاختيار ما بين مجموعة العديد من المحللين المهنيين في الوكالة ورؤساء المحطات للسي آي إيه، الذين نصحوا بالتروي والحذر في حالة العراق، وبين صقور البنتاغون والمحافظين الجدد الذين كانوا متعطشين للحرب. " لقد أحب جورج تينيت أن يتحدث عن كيف أنه يوناني صلب من كوينز،" يقتبس الكاتب عن أحد أزلام تينيت سابقا. ولكن الموظف السابق أضاف انه في الواقع أي تينيت "أراد أن يكون محبوبا ليس إلا."

وبالنسبة للعراق يقول الكاتب: لقد كان رامسفيلد ونائبه بول ولفوفيتز يستمعان للمتشددين الإسرائيليين وليس لوكالة المخابرات المركزية الحذرة في تصورها. لقد قام رجال الموساد برحلات متكررة إلى واشنطن للشرح لكبار الرسميين الأمريكيين. "ولكن المحللين الاستخباريين في السي آي إيه غالبا ما كانوا متشككين في تقارير المخابرات والمعلومات الإسرائيلية- مع العلم بأن الموساد له الاسباب القوية في التحيز ضد العالم العربي." وبعد زياراتهم المتكررة غالبا ما أسقط المحللون في السي آي إيه الكثير من المعلومات الإسرائيلية مما أغضب ولفوفيتز وغيره من المحافظين الجدد في البنتاغون.

ولما أصبح السيد تينيت بجانبهم ولا يوجد هناك عقبات تذكر في طريقهم، يقول الكاتب: لقد أصبح الطريق سالكا لجماعة بوش للمضي قدما في خططهم للجوء للتفسيرات الغريبة وللتعذيب المؤكد وللسجون الأجنبية السرية ولبرامج التنصت والتجسس لوكالة الأمن القومي الواسعة النطاق التي يوضحها الكاتب في الفصول اللاحقة.

ولكن وكالة الأمن القومي هي قلب "حالة حرب." ومنذ تأسيسها في عام 1952 اعتبرت وكالة الأمن القومي نفسها فوق القانون لا تحكم من قبل قوانين فيدرالية بل من أوامر رئاسية سرية للغاية معروفة بأوامر لجنة الاستخبارات للأمن القومي National Security Council Intelligence Directives
إلى حد أن أحد هذه الأوامر قضى بأن وكالة الأمن القومي تستطيع تجاهل القانون عندما تأتي إلى شكل سري قوي من التنصت معروف بإشارات استخبارية- أسلوب المكنسة الكهربائية أي الشفط الذي يشفط ملايين الاتصالات في ساعة واحدة. ولاحقا وأثناء ووترغيت أمر الرئيس ريتشارد نيكسون وكالة الأمن القومي بتوجيه أجهزة التنصت للداخل وتبدأ العملية على آلاف الأمريكيين من المحتجين على حرب فيتنام.

فالذي يجعل برنامج التنصت السري الحالي لوكالة الأمن القومي أكبر تهديدا من ذي قبل، في نظر الكاتب، هو انفجار الاتصالات الرقمية. في السبعينات أكثر الاتصالات المكتوبة كانت تأخذ شكل الرسائل في صناديق البريد حيث لا سلطة لوكالة الأمن القومي عليها. فلم يكن هناك رسائل إليكترونية أو هواتف خليوية. أما اليوم فالخبراء يقدرون أن ما يقرب من تسعة تريليونات من الرسائل الإليكترونية يتم إرسالها في الولايات المتحدة في كل سنة. "يقوم الأمريكيون بما يقرب من بليون مكالمة هاتف خليوي وأكثر من بليون مكالمة في الهاتف الثابت في اليوم الواحد."

وعند تذكر تجارب وكالة الأمن القومي السابقة’ لقد أخبر عدد من الرسميين، الذين هم على معرفة بعملية وكالة الأمن القومي الجديدة، السيد ريزين بأنهم قلقون جدا من ذلك ويعتقدون أن التحقيق يجب أن يبدأ بالأسلوب الذي حولت به إدارة بوش أقوى أدوات الاتصالات ضد الشعب الأمريكي. ولكن حتى الآن، وبدلا من التحقيق في المخالفات المحتملة لقانون مراقبة الاستخبارات الخارجية، لقد فتحت وزارة العدل تحقيقا عن الذين سربوا المعلومات عن العملية للسيد ريزين.

وبعد أن واجهت وكالة الأمن القومي اتهامات مشابهة قبل ثلاثين سنة، بدأت وزارة العدل بتحقيق جنائي سري للغاية الذي استمر لأكثر من سنة. وعلى الرغم من أن محامي العدل كشفوا عن 23 بندا من نشاطات مشكوك فيها. وفي نهاية الأمر، وبسبب السرية الكبيرة لنشاطات الوكالة ونقص القانون المؤطر لعملها، امتنعوا عن المحاكمة. وبدلا من ذلك أوصوا الكونغرس بامكانية إيجاد قانون تشريعي يجرم مثل هذا النوع من إساءة الاستخدام. وبعد سنة قام الكونغرسن بسن قانون مراقبة الاستخبارات الخارجية.

لقد فشل الكاتب في توثيق كل الانتهاكات التي ارتكبتها إدارة بوش منذ أول يوم جاء فيه بوش إلى الرئاسة. لقد فاز بطريقة غامضة وبعد الحادي عشر من أيلول، صادرت إدارة بوش حرية التعبير عبر قانون ما سمي بالقانون الوطني The Patriot Act وشنت الحرب على العراق منتهكة القانون الدولي وارتكاب الجرائم في سجن أبوغريب وغوانتنامو واختطاف الأشخاص بحجة محاربة الإرهاب والاحتفاط بهم في سجون سرية خارح الولايات المتحدة وغيرها من الانتهاكات التي يتم الكشف عنها كل يوم. والآن وقد قامت إدارة بوش ما قامت به من انتهاك للقانون على كل المستويات، فالسؤال هو ماذا ستكون نتيجة المساءلات والتحقيقات التي يدعيها الكونغرس هذه المرة؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية