بعد ثمانية وخمسين عامًا هي عمر النكبة الفلسطينية التي أاخرجت من أحشائها القضية الفلسطينية – وليس لها إلا هذا المسمى – وتحديدًا غداة الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة، طلعت علينا مؤخرا عرابة السياسة الخارجية الاميركية بتصريح مفاده أن الولايات المتحدة الأميركية تدرس احتمال تاييد خطة الانفصال الأحادي التي اخترعها الجنرال أريئيل شارون، وطبق المرحلة الأولى منها في قطاع غزة، وها هو إيهود أولمورت وريثه وزعيم حزب كاديما، ورئيس الحكومة الإسرائيلة الموعود، يكرر الحديث عن المرحلة الثانية في الضفة الفلسطينية، مضيفا أليها بعدًا استراتيجيًا خطيرًا يتمثل في ترسيم حدود اسرائيل.

*) ودراسة احتمال التاييد في السياسة الأميركية لا تعني أن الإدارة الاميركية لم تحزم أمرها بعد، او انها مازالت مترددة، بقدر ما تعني أن الامر أصبح مبتوتا فيه. وفي حالة خطة الانسحاب الأحادي، فان الولايات المتحدة قد سبق وايدتها في قطاع غزة، وها هي تتغنى بنجاحها، الامر الذي يؤكد بما لايدع مجالا للشك انها عازمة على اعادة الموافقة على ذات السيناريو في الضفة الفلسطينية، او بصحيح العبارة ما تبقى من اراضيها .

*) وثمة امر آخر يؤيد ما نوهنا اليه، وهو ادعاء الولايات المتحدة انه لا يوجد شريك فلسطيني مفاوض جراء ارتقاء حماس الى سدة الحكم وتشكيلها الحكومة الفلسطينية، فقد دأبت كل من الولايات المتحدة واسرائيل على وصف هذه الحكومة بالارهابية، كونها "تفتقر الى المواصفات التي تؤهلها لكسب ثقة الاميركيين والاسرائيليين والمتمثلة بنبذ ما تسميانه ارهابا، والاعتراف بإسرائيل، وخارطة الطريق، وما الى ذلك من اشتراطات .

*) وبداية ثمة الكثير من الحقائق التي تطرح نفسها تخص القضية الفلسطينية كمقدمة لحديثنا، ولا نظن انها تخفى على الولايات المتحدة بقدر ما هي تتجاهلها عامدة متعمدة. أولى هذه الحقائق ان هناك قضية فلسطينية وان تقادم عليها الزمن، وهناك افرازات كارثية لهذه القضية كما ان هناك احتلالا، وبطبيعة الحال هناك شعب فلسطيني هو طرف الصراع الذي ما زال قائما حتى الآن، وهو ايضا الشريك في اية مفاوضات سلام يمكن ان تجرى على ارض الواقع .

*) وثانية هذه الحقائق وعلى خلفية كون الولايات المتحدة لا تريد الاعتراف بالحكومة الفلسطينية الحالية، فان هناك من يمثل الشعب الفلسطيني وهي السلطة الفلسطينية التي تتفيأ ظلال مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي خرجت من رحمها.

*) وثالثة هذه الحقائق تخص خطة الانسحاب الاحادي المتضمنة ترسيم حدود اسرائيل، هذه الخطة التي تنوي اميركا تأييدها. ان السيد رايس وزيرة الخارجية الاميركية وهي تنطق بوحي من البيت الابيض، تدعي ان هذه الخطة قد نجحت في قطاع غزة الامر الذي يشجع على تكرارها في الضفة. والسؤال المتعدد الجوانب الذي يفرض نفسه: أي نجاح هذا الذي حول القطاع الى معتقل كبير محاصر مراقبمنتهك برا وبحرا وجوا. وهل عمليات الاغتيال، واغلاق المعابر، وقطع التواصل الجغرافي مع بقية محافظات الوطن والعالم الخارجي، وفرض سياسة الحصار التجويعي هي مواصفات هذا النجاح الذي تتحدث عنه الوزيرة الاميركية ؟ .

*) والحقيقة الرابعة وتتمثل في السؤال الكبير الذي ما زال الفلسطينيون يرددونه على مسامع الدنيا: اين هي الوعود الاميركية ؟. اين وعد الرئيس جورج بوش الابن قبل خمس سنوات بالدولة الفلسطينية، وها هو قد اصبح في الربع الاخير من ولايتيه الرئاسيتين ؟. اين خارطة الطريق التي يفترض ان تقود الى الى مؤتمر دولي بخصوص مفاوضات الحل النهائي؟ .

*) والحقيقة الخامسة وقد لا تكون الاخيرة تخص الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الذي ما كان في يوم من الايام مع اميركا التي يفترض بها ان تكون راعية امينة عادلة غيرمنحازة، وذات خطوات وتوازنة في كل ما يخص العملية السلمية التي ما برحت مربعها الاول. ومرة اخرى يتساءل الفلسطينيون ولطالما تساءلوا: لماذا هذه السياسة الاميركية المتنكرة لمجمل حقوق الشعب الفلسطيني والتي تعرفها اميركا حق المعرفة ؟ . لماذا تنكر ان هناك قضية فلسطينية، وان هناك احتلالا ينبغي ان ازالته كخطوة اولى على طريق اية تسوية سلمية ؟ .

*) ان هذه الاسئلة المعادة والمكررة لا تحتمل الا اجابات محددة ليس لها أي احتمال آخر. إن سياسة الولايات المتحدة منحازة حقا، تكيل بمكيالين، تعادي الفلسطينيين في أعز امانيهم الوطنية، وتنكر عليهم حقوقهم المروعة في السيادة والحرية والاستقلال. لقد دأبت هذه السياسة منذ زمن على خداعهم بوعودها التي تنصلت منها. لقد طالبتهم بالديموقراطية، ويوم ضربوا مثلا رائعا في تطبيقها انقلبت عليهم، ولم تعترف بما ارادوه وشاؤوه.

*) ان السياسة الاميركية قد زجت بنفسها طرفا في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. لقد تجاهلت كل قرارات الشرعية الدولية، ومثالا لا حصرا القرارات 194، 242، 338، وغيرها الكثير من القرارات. وتمادت هذه السياسة حين غضت النظر وتعامت عن كل ممارسات الاحتلال الاسرائيلي القمعية. والانكى من ذلك انها لا تعترف بان هناك احتلالا يغتصب الارض والهواء والماء، ويدمر الحجر والشجر، ويغتال البشر، ويمارس العقوبات الجماعية، واقسى الانتهاكات القمعية المذلة بحق الشعب الفلسطيني. والامر والادهى ان هذه السياسة قد صنفت جل نضالات الشعب الفلسطيني المقاومة للاحتلال على انها ارهاب واعمال عنف .

*) وازاء هذا كله، فان الشعب الفلسطيني وفي المقابل لا يكره اميركا ولا الاميركيين، واذا ما انتابته مشاعر المرارة والاحباط، وكانت له تحفظات وملاحظات وانتقادات فهي موجهة لهذه السياسة غير المتوازنة، والتي لا تنظر إلى الأمور إلا بالعين الاسرائيلية. إنها والحق يقال سياسة ظالمة خاطئة بكل المعايير، ولا تؤسس لسلام او استقرار في المستقبلين العاجل والآجل .

*) واستكمالا فان الفلسطينيين يعتقدون انه كان ولا يزال باستطاعة الولايات المتحدة دون أدنى مساس بمصالحها الاستراتيجية، وبما تملكه من قوة ونفوذ ومقومات اخرى لا تحصى أن تجد حلا عادلا ومشرفا للقضية الفلسطينية، وبذلك فانها تكتسب مصداقية عالية في تعاملها مع الشعوب بعامة، والشعوب العربية الاسلامية التي ينتمي اليها الشعب الفلسطيني .

*) الا ان سياسة الولايات المتحدة قد سلكت الاتجاه المعاكس المعادي لاصحاب هذه القضية التي جردتها من محتواها الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، والعقائدي، وتنكرت لهم ولها، وهي بذلك تتقمص السياسة الاسرائيلية التي قامت على أساس اغتصاب وطن وطمس قضية ومحوها من ذاكرة الفلسطينيين .

*) فلسطينيا، منذ صدور وعد بلفور في العام السابع عشر من القرن العشرين المنصرم حتى هذه الايام مرت القضية الفلسطينية بمسلسل لا ينتهي من التآمر عليها عبر فرض حلول تصفوية عليها. الا ان هذه القذية كانت اقوى من الزوال، ولم تزدها التحيات الا صلابة واصرارا على استرجاع الحقوق المغتصبة، وانهاء الاحتلال، واقامة الدولة كاملة السيادة، وان طال الزمن.
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية