يبدو للوهلة الأولى، أن المفاضلة بين المقدسات والحقوق هي في أساس الأزمة المستفحلة بين الإسلام والغرب في هذه الآونة . فالله عز وجل في ثقافة المسلم المتدين كما المتسامح جلال ومهابة، وللرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم كرامة وعصمة، ولشعائر الدين الحنيف احترام وتجلّة. أما في ثقافة الأوروبي والأمريكي فليس لله المهابة نفسها، ولا للأنبياء المكانة والكرامة التي للأنبياء في ثقافة المسلم، ولا للشعائر الدينية احترام والتزام مماثلان. من تابع مباحثات قادة دول أوروبا حول مشروع دستور الاتحاد الأوروبي لاحظ بوضوح أن غالبيتهم عارضت في أن يكون لله وللمسيحية ذكر أو إشارة في مقدمته ومواده. أما قادة الرأي عندهم فإنهم يردّون الأخلاق والآداب والقيم إلى مصدر مدني هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والى ما سبقه من مواثيق ومعاهدات وفلسفات وأدبيات. إنهم ليسوا ملحدين بالضرورة بل لعلهم، كسائر المواطنين الأوروبيين، مؤمنون من دون أن يكونوا متدينين. لذا فإن الحقوق في ثقافتهم أهم من المقدسات، وان الحديث عن المقدسات هو، في عرفهم، جزء من حرية التعبير.
غير أن “حرية التعبير لا تعني حرية إهانة الدين” كما قال سيد الفاتيكان في اعتراضه على فعلة صحف الدنمارك وفرنسا والنروج وغيرها التي نشرت أو أعادت نشر الصور الكاريكاتورية التي تمسّ بالرسول الأعظم . فالإصرار على نشر تلك الصور في هذه الآونة ليس مظهر جهل بالمقدسات والحرمات كما قال البعض، ولا نتيجة تمسك بحرية التعبير كما قال البعض الآخر بل هو، قبل ذلك كله وفي الدرجة الأولى، فصل جديد من الحملة الثقافية - السياسية التي أطلقتها في الغرب دوائر وقوى صهيونية أو ممالئة للصهيونية بغية إحلال الإسلام محل معاداة السامية كهدف للتصويب والتعنيف والكراهية.
إذا كان البابا بنديكيت السادس عشر ليس طرفاً في هذه الحملة الشريرة التي تلفّ أوروبا في الوقت الحاضر، فإن قساوسة ومسؤولين في بعض الكنائس المسيحية الإنجيلية المتصهينة في الولايات المتحدة يجاهرون في عدائهم للإسلام والمسلمين حتى إن احدهم دعا قبل أشهر إلى تدمير مكة المكرمة!
إن توظيف الدين في خدمة السياسة ليس جديدا. ففي العام 1095 أطلق البابا اوربان الثاني “رسالة الإرشاد” داعيا فيها الملوك والأمراء والنبلاء والأغنياء والفقراء وسائر المسيحيين المؤمنين إلى إنقاذ الديار المقدسة حيث مثوى السيد المسيح وصليب المسيحية من غوائل العرب والترك الذين اجتاحوا أراضي الرومان ( يعني الإمبراطورية الرومانية) وباتوا يهددون بلدان أوروبا المسيحية وقد يجتاحونها إذا لم يبادر المسيحيون إلى استباق الحدث الجلل بالهجوم على الأعداء في عقر دارهم. هكذا تمّ توظيف الدين والمشاعر الدينية من اجل استثارة “المؤمنين” لشن حربٍ سرعان ما تحوّلت حملة استباحةٍ ونهب واعتداء على الحرمات والأرزاق، شنها شذاذ الآفاق من الفرنجة وأصابت بشرورها وأضرارها المسيحيين في بيزنطية وبلاد الشام قبل أن تصيب المسلمين على امتداد بلدان المشرق العربي.
إن العرب والمسلمين يواجهون منذ مطلع القرن التاسع عشر حملة مماثلة يشنها الفرنجة الجدد، تهدف إلى السيطرة على طريق التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا. هذا الغرض (الاستراتيجي) استلزم محاربة السلطنة العثمانية وتفكيكها في الحرب العالمية الأولى 1918-،1914 كما تطلّب زرع “إسرائيل” في قلب بلاد الشام العام 1948 لفصل عرب المشرق عن عرب وادي النيل وعرب المغرب، ثم الحؤول دون تكرار تجربة صلاح الدين الأيوبي الذي وحّد مصر وسوريا من أجل محاصرة ممالك الفرنجة، فكان ان جرى تفكيك الجمهورية العربية المتحدة العام 1961 والقضاء على تيار جمال عبد الناصر ونفوذه في المنطقة. وها هو الغرب الأوروبي والأمريكي يتابع تنفيذ خطته الإستراتيجية التاريخية بتفكيك العراق ومحاولة تفكيك سوريا ومن ثم إيران بدعوى الحؤول دون امتلاكها أسلحة نووية.
في سياق هذه الحرب المتمادية على العرب والمسلمين تأتي هذه الأيام حملة الإساءة إلى مهابة الرسول الأعظم في بعض دول أوروبا، فهل أحسنّا مواجهتها على نحوٍ يخدم قضيتنا وأهدافنا ومصالحنا؟
الحقيقة ان سلوكياتنا في معظم ما قمنا به من تظاهرات في عالمنا العربي والإسلامي وفي أنحاء العالم الأوسع انزلقت إلى أفعال ومشاهد أساء بعضها إلينا بأكثر مما أساءت صحف الدنمارك وفرنسا والنروج وكراوتيا وغيرها. هل في مصلحتنا أن نواجه الذمّ والتجريح بأفعال مماثلة وأن نقرنها، فوق ذلك، باعتداءات سافرة على كنائس ومؤسسات مسيحية، كما حدث في لبنان، أو على ممتلكات خاصة وعامة ناهيك عن مقارّ سفارات دول أوروبية في شتى أنحاء العالم الإسلامي؟ ألم يكن أجدى لنا وأرقى أن نكتفي بالتعبير الحضاري المندد بخروج خصومنا السياسيين العنصريين على تعاليم الأديان والقيم الإنسانية ومواثيق حقوق الإنسان بتلك الأفعال المنافية للأخلاق والقيم الإنسانية والحضارية؟
ثم أليس لافتا أيضا أن مقدساتنا تتقدم كثيرا في سلوكياتنا على حقوقنا، فلا نعير هذه الأخيرة الأهمية اللازمة ولا نسعى أو نناضل من اجل تحقيقها أو استردادها؟ هل للشعائر قداسة عندنا أكثر من الحقوق الشخصية ولماذا؟ أليس للحق في الحياة والحرية والكرامة والعيش الكريم قداسة وأهمية عندنا؟ أليس للأرض، ارض الوطن والأجداد والأحفاد، قيمة واحترام وتقدير؟
إذا كان لكل هذه الحقوق والقيم أهمية وقيمة وتقدير، لماذا لا نشعر بالإستفزاز وبالإهانة عند استباحتها وانتهاكها من قبل الغير، أيا كان؟ لماذا للمورثات أهمية في حياتنا أكثر من المنجزات ؟ لماذا الماضي الغابر يحفّزْنا إلى التحرك أكثر من الحاضر الذي نعيش فيه؟
كاد الاستعمار ينتهي في كل أنحاء العالم إلاّ عندنا، فلماذا نطيق وطأته منذ مئات السنين ولا نناضل لإزالته عن كاهلنا كما سائر الشعوب الحرة ؟
نتهم الغرب بازدواجية المعايير، وهذا طراز من النفاق، فهل كان الغرب لينجح في منافقتنا لو لم نكن نحن ننافق أنفسنا؟ أليس نفاقا ان ندّعي الغضب عندما يجرّح احدهم نبيا أو ولياً أو زعيما ولا نشعر بالخجل عندما نمارس نحن شتى أنواع الكذب والنفاق والتجريح بحق بعضنا بعضا؟
يخاطبنا البعض قائلين: الإسلام هو الحل. عودوا إلى الإسلام.
الحقيقة أننا لم نترك الإسلام يوما كي نعود إليه. لذلك نقول لهؤلاء دونما تردد: ارتقوا إلى الإسلام لأنكم أدنى من مستوى قيمه الخالدة.