قد تكون صناديق الاقتراع في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة قد أفرزت بعض المفاجات التي تخالف ما توقعته لها استطلاعات الرأي على صعيد مقاعد الكنيست السابعة عشر، وحصة كل من الاحزاب المتدينة، واليمينية،أو تلك الأحزاب الرئيسة – كاديما، العمل، الليكود - . ولا يعنينا في هذا المقام الخوض في الخلافات الشكلية الظاهرية لبرامج هذه الأحزاب المذكورة ولا غيرها، فهي في اعتقادنا خلافات لا تنطلق من تعدد استراتيجيات سياسية فيما يخص منظورها تجاه القضية الفلسطينية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وحقيقة الامر ان الاحزاب الاسرائيلية على خطين متقاطعين ، خط التطرف ، وخط فرض الحل الاحادي ، وان اية خلافات ان وجدت، فهي في اطار التكتيك والمناورة والالتفاف والمماطلة والاشتراط ، وفي درجة التشدد في تطبيق اللاءات الاسرائيلية التي نادت بها كل الاطياف الحزبية الاسرائيلية، وآخرها حزب كاديما، ويعني بالعربية الى الامام.
*) وكاديما هذا هو آخر مستجدات الطيف الحزبي الاسرائيلي الذي أسسه الجنرال "أريئيل شارون" حينما كان رئيسا للحكومة الاسرائيلية ، وقبل ان يدخل في غيبوبته المرضية . وقد اصبح كاديما الحزب الاول في هذا الطيف ليس بالنسبة لعدد مقاعده فحسب، بل بالنسبة لاسلوبه في تطبيق "اللاءات الاسرائيلية " بواسطة خطة الانسحاب الاحادي التي طبقها في قطاع غزة، وطرحها من جديد لتطبيقها في الضفة الفلسطينية في برنامجه الانتخابي.
*) وكاديما أيضا سيكون العمود الفقري لاية حكومة اسرائيلية سوف تتشكل . وفي ذات السياق فان زعيمه " إيهود أولمورت " سوف يتبوأ منصب رئاسة الحكومة الاسرائيلية . ولا جديد فيما يخص رؤية حزب كاديما وفكره تجاه مجمل القضية الفلسطينية التي . لقد خرج هذا الحزب من رحم حزب الليكود ، وهو ذلك الحزب اليميني المتشدد الذي لا يملك افقًا سياسيا للتعامل مع الفلسطينيين ، وظل على الدوام ينطلق في نهجه السياسي وممارساته على ارض الواقع من نظرية الامن الاسرائيلي لما يسميه ارض اسرائيل الكبرى التي تنكر أي حق للفلسطينيين ، وتعتبرهم "مجرد ساكنين ، نافية عنهم صفة المواطنين"، وناكرة اية حقوق لهم ناجمة عن تداعيات النكبة التي حلت بهم وبوطنهم.
*) ومهما كانت الاسباب وراء انشقاق كاديما عن الليكود ، وهي في الحقيقة شكلية ليس الا ، فان كاديما يحمل في احشائه وثناياه بذور الفكر الليكودي الصهيوني الضارب بعرض الحائط كل ما يمت الى المصالح والاستحقاقات الفلسطينية التي اقرتها الشرعية الدولية . وهنا يمكن القول بكل صدقية ان الاحزاب الاسرائيلية قد تعددت فعلا ، اوانشقت احيانا، او انها اتحدت اوانكمشت، الا انها في حقيقتها ظلت تنتمي الى خارطة فكرية واحدة موحدة.
*) ومع ان اسرائيل تملك كل اسباب القوة الاستراتيجية التي سخرتها على الدوام لفرض احتلالها و بسط نفوذها على الاراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني، الا انها ايضا كانت تحظى بمزيد من منظومة القوة والدعم والتاييد للاستمرار في هذا النهج الاحتلالي العدواني من عدة جهات اقليمية ودولية ، وهي مازالت واثقة انها ستظل تحظى بهذه المنظومة في المستقبلين الآني والبعيد.
*) إقليميا، والأصح عربيا، فمما لا شك فيه ان القضية الفلسطينية التي كانت قضية العرب الاولى، قد فقدت هذه المكانة والمنزلة، وفقد الفلسطينيون معها العمق العربي جراء ما وصلت اليه الاوضاع السياسية في العالم العربي الصامت والعاجز المتعاجز ، والذي ضحى بمساحة شاسعة جدا من الثوابت القومية التي تخص القضية في مذبحي التطبيع والدوران في الفلك الاميركي.
*) وهذا وحده كان كفيلا ان يجعل اسرائيل تسرح وتمرح في ميدان احتلالها للوطن الفلسطيني، تخطط وتنفذ، تهدم وتبني، تصادر وتهود على هواها دون رقيب او حسيب . وليت الامر يقف عند هذه الحدود ، ذلك ان اسرائيل قد اصبحت قاب قوسين او ادنى من تصفية القضية الفلسطينية من جذورها كمحصلة طبيعية وثمرة آتت أكلها لسياساتها ومخططاتها التي اصبحت حقيقة على ارض الواقع.
*) دوليا، والمقصود هنا اميركيا واوروبيا، فالسياسة الاسرائيلية تعمل آمنة مطمئنة وهي تتفيأ ظلال المظلة الواقية الاميركية، كونها دون ادنى شك اصبحت قضية استراتيجية اميركية من الدرجة الاولى ، وبخاصة في عهد الرئيس الاميركي الحالي جورج بوش الابن الذي قدم لاسرائيل ما لم تحلم به ، وسكت وتغاضى عن كل اعمالها وممارساتها الاحتلالية القمعية المنافية لأية عملية سلمية، غير آبهة بخارطة الطريق التي رسمتها السياسة الاميركية.
*) والدعم الاميركي المادي والمعنوي لا يقف عند هذه الحدود ، فالسياسة الاميركية تقف للفلسطينيين بالمرصاد، فهي من ناحية لا تعترف بان هناك احتلالا لوطنهم ، و تصف جل نضالاتهم ومقاومتهم للاحتلال بالارهاب والعنف ، ولا تستمع الى شكواهم او تعيرها ادنى اهتمام ، وتتجاهل تفشي الاستيطان، وهذا الجدار الفاصل اللذين صادرا اراضيهم ، ولا تحرك ساكنا ازاء تهويد القدس ، ولا تستثير مشاعرها الحواجز والحصارات والاغلاقات والاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات والحصارات وسياسة التجويع . والانكى من ذلك كله انها خدعتهم بوعديها لهم – وعد الدولة ، ووعد خارطة الطريق - ، وزيادة في القهر واللامبالاة كالت الوعود لاسرائيل بتصفية القضية.
*) في ظل هذه المعطيات تتشكل الحكومة الاسرائيلية الجديدة ، وعلى الارجح انها سوف تضم اطيافا متعددة مختلفة الاسماء، الا انها مجمعة على سياسة واحدة كونها تنطلق من منهج واحد حريص على ثوابته الاحتلالية التوسعية ، وهي والحال هذه مزيج من التطرف والنزوع الى الحل الاحادي ، وهي سياسة لا تعترف بالفلسطينيين باعتبارهم شريكا مفاوضا في اية عملية سلمية ، كونها أاساسا، وهي متسلحة بمنطق القوة، لا تؤمن بها ولا بالقضية.
*) فلسطينيا، ان اخطر ما يتهدد القضية الفلسطينية في هذه المرحلة بالذات وتحديدا فقدان عمقها العربي ، ان السياسة الاسرائيلية التي مررت خطة الفصل الاحادي في قطاع غزة ، عازمة وباجماع غالبية الاحزاب الاسرائيلية وفي مقدمتها حزب كاديما ، ان تطبق هذه الخطة في الضفة الفلسطينية ، وقد اصبحت جاهزة على ارض الواقع ولا ينقصها الا الاعلان الرسمي عنها.
*) ان هذه الخطة التي يتبناها كاديما والقائمة على لاءات اسرائيل المعهودة لحق العودة، والرجوع الى حدود العام 67، والاصرار على الاحتفاظ بالقدس والكتل الاستيطانية الكبرى ومنطقة الأغوار ، والهواء والماء، ومصادر الثروة الطبيعية الاخرى ، وهذا الجدار الفاصل الذي افترس مساحات شاسعة من الارض الفلسطينية، ان هذا كله وغيره يجعل ترسيم حدود دولة اسرائيل امرا واقعا، وهو ما شكل حجر الزاوية في البرنامج الانتخابي لكاديما ، وما صرح به مؤخرا "شمعون بيرس" الرجل الثاني في كاديما : "ان اسرائيل سوف تقوم بترسيم حدودها ، وسوف تقنع مع الايام العالم العربي بها"، متجاهلا الفلسطينيين.
*) وكلمة اخيرة، ربما تكون هذه القراءة قد رسمت مشهدا قاتما لما آلت اليه الاوضاع على صعيد القضية الفلسطينية بعد ثمانية وخمسين عاما من النكبة. الا ان الشعب الفلسطيني قد خبر كل الصعاب والتحديات، وظل صامدا عند حدود ثوابت قضيته الاساسية، وهو في ذات الوقت، وقد مد يدا الى السلام العادل والمشرف ، يعتقد جازما ان التسويات والحلول المنفردة الاحادية المفروة فرضا لا يمكن لها ان تصمد، او ان يكتب لها النجاح، وبخاصة اذا كانت تهضم حقوق اصحاب الارض الشرعيين، وتعيدهم الى مربع النكبة الاول.