لا شك أن الاستطلاع الأخير الذي قامت به مؤسسة "بيو"، والذي نشر في صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية، وغيره من الاستطلاعات التي تجريها عدد من المؤسسات التي تُعنى برصد مدى العداء والكره الذي يكنه العالم العربي والإسلامي اليوم للولايات المتحدة الأمريكية؛ ليطرح تساؤلا جوهريا مفاده لماذا تفاقمت ظاهرة العداء لأمريكا في كل عواصم العالم بشكل عام، وفي العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، إلى الدرجة التي لم تعد تخفى حتى على بسطاء الناس فضلا عن المثقفين والدارسين والمتابعين للسياسات الأمريكية في العالم، فقد أصبحت الأرقام والإحصائيات التي تصدرها هذه المؤسسات تشير إلى أن مشاعر العداء لأمريكا تتزايد بشكل كبير ومطّرد، بالرغم من أن تلك المؤسسات لا تنشر في الغالب إلا أنصاف الحقائق، وإلا فإن ظاهرة العداء الذي يكنه العرب والمسلمين للولايات المتحدة الأمريكية في تزايد تصاعدي أكبر بكثير مما تنشره هذه المؤسسات.

وبنظرة إلى السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية مع عدد من دول العالم العربي والإسلامي خلال الفترة الأخيرة سوف ندرك أن استفحال ظاهرة العداء لأمريكا يعتبر أمرا حتميا ناتجا كردة فعل طبيعية للسياسات الأمريكية المتعجرفة التي لا تقيم للإنسان العربي ولا للدول العربية والإسلامية أي اعتبار، فالتعنت الغريب وسياسة الكيل بمكيالين التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية مع إيران وبرنامجها النووي الذي مازال في طوره البدائي، ليعبر عن ازدواجية معايير غريبة في التعامل مع الدول العربية والإسلامية، فالبرنامج النووي الإسرائيلي أنتج حتى الآن مئات الرؤوس النووية التي تستطيع تدمير المنطقة برمتها، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تنبس ببنت شفة، ولم نسمع منها أي اعتراض على هذا النشاط النووي الإسرائيلي، بينما أقامت أمريكا الدنيا ولم تقعدها بسبب البرنامج النووي الإيراني المخصص للاستخدامات السلمية، بل إن الأمر تعدى مسألة الضغط السياسي على إيران إلى التهديد باستخدام القوة، وذلك عندما طلبت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس من مجلس الأمن تبني قرار بشأن إيران يستند إلى الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة.

وليس ببعيد من إيران ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية مع الشعب الفلسطيني وحكومته التي شكلتها حركة المقاومة الإسلامية حماس من فرض حصار مالي وسياسي عليها، بغية تطويعها والضغط عليها وثنيها عن مواقفها الرافضة للاعتراف بإسرائيل، الأمر الذي أثار مشاعر الحنق والعداء لأمريكا لدى الشارع العربي والإسلامي على هذا التصرف الأرعن من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، فالقضية الفلسطينية – رغم التدهور الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي اليوم- لا زالت تشغل حيزا كبيرا من تفكير العرب والمسلمين، ولعله لم يعد هناك ما يمكن الاتفاق عليه بين العرب إلا القضية الفلسطينية، وكما يقول الأستاذ محمد السماك فيما نقله عن دراسة أصدرتها مؤسسة "بيو" الأمريكية أخيرا، أن المشكلة الأساسية التي تسيء إلى العلاقات الأمريكية مع العرب والمسلمين تتمركز في القضية الفلسطينية، وفي الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل، واستناداً إلى هذه الدراسة أيضا فإن أبشع صورة للولايات المتحدة في العالم أجمع هي صورتها في العالم العربي والإسلامي.

ثم الأمر الآخر الذي يزيد من موجة العداء للولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي، السياسة الأمريكية في العراق المحتل، حيث مرت قبل أيام قليلة الذكرى الثالثة للاحتلال الأمريكي للعراق، ذلك الاحتلال البغيض الذي أقدمت عليه أمريكا بحجة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، ثلاث سنوات مرت على هذا الاحتلال ولم نشاهد في العراق إلا الدماء والدمار والخراب والفوضى وانعدام الأمن، والحروب الأهلية والفتن الطائفية، وللأسف فإن هذه الأوضاع المزرية في العراق مرشحة للمزيد من التدهور والانهيار ما دامت الولايات المتحدة الأمريكية مصرّة على إرساء "ديمقراطيتها!" بالقوة في العراق.

وكذلك هو الحال مع سوريا، حيث تضغط الولايات المتحدة الأمريكية على النظام السوري بالضرب على وتر التحقيق في مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وتريد الولايات المتحدة الأمريكية التحقيق مع أكبر عدد ممكن من المسؤولين السوريين، الذين تقول أنهم كانوا يتحملون عبء الأمن في لبنان.

ثم التعجرف والصلف الأمريكي في التعامل مع ليبيا ليضاعف من موجة هذا العداء للولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية "شون ماكورماك" قبل أيام أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست مستعدة بعد لسحب ليبيا من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، بحجة أن هنالك بعض الواجبات التي يتعين على ليبيا القيام بها حسب القوانين والإجراءات التي تحدد وضع الدولة التي تدعم الإرهاب، ثم التدخل السافر الذي تحرض عليه الولايات المتحدة الأمريكية في السودان، بحجة أن الحكومة السودانية تقوم بدعم ميليشيات شاركت في الإبادة الجماعية في دارفور، وارتكبت أعمال اغتصاب وقتل، رغم أن الحقائق تؤكد بطلان هذه المزاعم، وإنما هي الطريقة الأمريكية في البحث عن أي مسوغات لتبرير عنجهيتها وصلفها العسكري.

كل هذه التجارب السياسية السيئة للولايات الأمريكية المتحدة في العالم العربي والإسلامي زادت في نمو مشاعر العداء والكره لأمريكا، نعم ربما يجب أن نقر بأن سياسات إدارة بوش قد ضاعفت موجة العداء لأمريكا، كما أنه من المؤكد أن ظاهرة العداء المتزايد للولايات المتحدة الأمريكية في العالم إنما تعود إلى التناقض الكامن في سياسات إدارة بوش نفسها، فهي تدعو إلى احترام القانون وفي نفس الوقت تقوم بانتهاكه، وتدعو إلى احترام الديمقراطية وتقوم بانتهاكها، ومع ذلك فإنه إذا تمعنا في عمق المسألة نجدها تتخطى بوش وسياساته إلى عدد من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فكثير من الإدارات الأمريكية المتعاقبة كانت على نفس النهج الذي تنتهجه اليوم الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش الابن.

لقد أضحى العداء لأمريكا أعمق وأوسع من أي وقت مضى، وإن التجارب السياسية المتغطرسة للولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي اليوم لتمثل العامل الأساسي الذي يشكل مفاهيم العرب والمسلمين عن أمريكا، كما أن العرب والمسلمين لا يحبون أو يكرهون أمريكا بسبب سهولة تسويق أيديولوجية التذمر لديهم، أو بسبب عقدة متجذرة في الفشل التاريخي والثقافي للمسلمين في الارتقاء إلى مستوى الحضارة والحداثة الغربية، أو بسبب الإصابة بفيروس معاداة أمريكا- كما يحلو للأمريكان القول- ولكن هؤلاء الناس يتخذون موقفاً من الولايات المتحدة الأمريكية بناء على تجاربهم المريرة معها، وإن هذه الممارسات المتعجرفة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية مع كثير من دول العالم لينذر باستفحال ظاهرة العداء لأمريكا، ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنما في كل عواصم العالم، وإذا ما استمرت الإدارة الأمريكية على هذا المنوال فإن الأمر حتما سيكون بداية النهاية لدولة "العم سام".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية