محنةٌ، ولعلها فتنة، هي حالة الصدام بين السلطة والمقاومة في فلسطين المحتلة. إذا طالت المحنة فقد تتطور إلى كارثة، كارثة للسلطة والمقاومة معاً، أي للشعب الفلسطيني في وطنه وشتاته. لستُ قاضيا في محكمة السياسة لأحكم على هذه الجهة أو تلك. ذلك أن كلاهما مسؤول، والمسؤولية مشتركة.
السلطة ورئيسها محمود عباس ومن ورائهما حركة " فتح " لم تسلّم بعد بوجود "حماس" في "السلطة"، أي في الحكم وما ينطوي عليه ذلك من صلاحيات ومهمات وبالتالي ممارسة مطلوبة للسلطة على الأرض وفي المجتمع.
المقاومـة، ممثلة بحركة "حماس" وسائر المنظمات الرافضة لإتفاقـات اوسلو ونتائجها السلبية، لم تسلّم بعد بوجود أمر واقع اسمه إسرائيل، وأن لا سبيل إلى تجاهله نظراً لحضوره في مختلف مستويات الوجود الفلسطيني، لاسيما في مسائل معيشته اليومية.
أبو مازن مصرّ على التمسك بصلاحياته الدستورية ويهدد حكومــة "حماس" بإقالتها لتفادي "مواجهة كارثة مجاعة كبرى". و"فتح" تتمسك بوجودها في الأجهزة الأمنية وبنفوذها في المؤسسات الحكومية وتنكر على حكومة "حماس" حقها في إدارة الأجهزة الأمنية وإصلاح المؤسسات العامة.
"حمـاس" مصممة على عدم الإعتراف بإسرائيل وعدم التعامل معها، وهي ما زالت تؤّمل بقدرتها على تجاوز مقاطعتها سياسيا وماليا من طرف إسرائيل وامريكا وأوروبا بإستنفار حمية الشعب الفلسطيني ونخوة الدول العربية والإسلامية لمدّ يد العون المالي والدعم السياسي.
أرى أن كِلا الطرفين قد أساء التقدير والتصرف. فلا السلطة ورئيسها ومن ورائهما "فتح" تستطيع تجاهل وجود "حماس" في الحكم وحقها الدستوري والسياسي في ممارسة السلطة، ولا "حماس" تستطيع تجاهل وجود إسرائيل ولا دورها في بعض مناحي معيشة الشعب الفلسطيني ناهيك بالتأثير في مستقبله.
الحقيقة أن لا أبو مازن يستطيع ان ينكر على حكومة "حماس" ممارستها السلطة، لاسيما في ما يخص الأمن الداخلي والأمن الاجتماعي للشعب الفلسطيني، ولا حكومة "حماس" تستطيع ان تنكر على رئيس السلطة الفلسطينية التعامل مع إسرائيل في ضؤ الإتفاقات والترتيبات السارية المفعول معها، بصرف النظر عمّا إذا كانت مشروعة ومقبولة ومفيدة.
لا السلطة تستطيع ان تنكر على المقاومة حقها في رفض الاعتراف بإسرائيل وبإصرارها على الكفاح ضد استعمارها الاستيطاني الإقتلاعي، ولا المقاومة تستطيع ان تتجاهل السلطة في قبولها الاعتراف الإكراهي بإسرائيل وإضطرارها إلى التعامل معها لتأمين مصالح الشعب الفلسطيني.
يتحصل مما تقدّم ذكره بأنه محكوم على الجانبين ، جانبي الجسم الفلسطيني الواحد، بأن يتوافقا على منهجيةٍ عملية ليمارس كل منهما إقتناعاته ويفي بموجباته على نحوٍ يؤمن مصالح الشعب الفلسطيني في الحاضر وحقه في ان يقرر مصيره في المستقبل، مع التمسك بالثوابت الوطنية والمبادئ العليا والحقوق غير القابلة للتصرف.
لعل المنهجية المنشودة تقوم على أساس ان يستمر الرئيس محمود عباس بممارسة صلاحياته الدستورية وفق الأسس التي أعلنها عشية إنتخابه رئيسا ، مع مراعاة الاتفاقات والترتيبات التي قامت على أساسها السلطة الفلسطينية، وذلك بالتنسيق مع حكومة إسماعيل هنية، ودونما تفريط بالثوابت والمبادئ والحقوق غير القابلة للتصرف. هذا يتطلب فيما يتطلب إعتبار المفاوضة، مفاوضة إسرائيل، غير متعارضة مع المقاومة، مقاومة إسرائيل في كل ما يحمي حقوق الشعب الفلسطيني ويؤمن مصالحه.
كذلك تقوم المنهجية المنشودة على أساس ان تضطلع حكومة إسماعيل هنية بممارسة صلاحياتها الدستورية في المجال الداخلي وفق الأسس التي أعلنتها عشية الانتخابات التي فازت بها بثقة الشعب الفلسطيني، وذلك بالتنسيق مع رئيس السلطة الفلسطينية، لاسيما لجهة ضبط الأمن، وقمع المخالفات والتعديات، ووقف الإهدار والفساد، ودعم هيئات المجتمع المدني من أجل ان تلعب دورا حيويا في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني.
هذه المنهجية المقترحة لا سبيل إلى إعتمادها وتفعيلها الاّ بعد توصّل الجانبين، السلطة والمقاومة، الى قبول احدهما بالآخر وتعايشه وتساكنه وتعاونه معه في هذه المرحلة الإنتقالية من حياة الأمة، إقليميا ودوليا. ذلك كله يتطلب خطوات ثلاثاً:
الأولى، تأليف لجنة للتوحيد والتنسيق منبثقة من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، تكون عضويتها متوازنة بين اطراف ثلاثة : السلطة (بما فيها "فتح") والمقاومة (بما فيها "حماس" وسائر المنظمات) والمستقلون، مهمتها التنسيق والتوفيق والمتابعة بين رئاستي السلطة والحكومة.
الثانية، التحاور والتشاور داخل لجنة التوحيد والتنسيق من اجل إعادة النظر بتركيبة الحكومة الحاضرة وذلك بهدف التوافق على تشكيل حكومة اتحاد وطني تشارك فيها "فتح" وتتحمل فيها المسؤولية الوطنية والقومية في هذه المرحلة الانتقالية العصيبة من حياة الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
الثالثة، التوافق على التحضير الجدي والمنهجي لعقد إجتماع إستثنائي ونوعـي للمجلس الوطنـي الفلسطـيني مهمتـه تـدارس التحديات، السياسية والإستراتيجية والإقتصادية، التي تواجه شعب فلسطين في الحاضر والمستقبل، بالتزامن مع تحديات أخرى تواجه الأمة في العراق وسورية ولبنان والسودان، وإنعكاسها على الصراع العربي – الصهيوني ، لاسيما بعد تصاعد الصراع الإيراني – الأمريكي إلى صراع إسلامي – غربـي (أمريكي وأوروبي) على مستوى العالم كله، والإسهام تالياً في وضع استراتيجية عامة لمواجهة هذه التحديات مقرونتاً ببرنامج مرحلي للكفاح الفلسطيني في إطار هذه الإستراتيجية.
إن مركزية قضية فلسطين في حياة الأمة باتت تظللها قضايا أخرى لا تقلّ عنها أهمية الأمر الذي يتطلب إعادة تقويم حال الأمة لإجتراح استراتيجية متكاملة للصراع على جميع الجبهات وفي مواجهة جميع التحديات وبما يخدم قضية شعب فلسطين وقضايا شعوب الأمة في هذه المرحلة الانتقالية البالغة الخطورة .