في حديثنا عن الديموقراطية ثمة حقائق لا بد أن ننطلق منها. أولاها أنه كان بالإمكان قيام ديموقراطية فلسطينية منذ زمن لولا أن الفلسطينيين كانوا وما زالوا يفتقرون إلى كيان سياسي يمارسون عليه حريتهم جراء اغتصاب وطنهم منهم، ورزوحهم تحت الاحتلال الاسرائيلي الذي اوشك ان يدخل عامه الأربعين. وثانية هذه الحقائق أن أية ديموقراطية يفترض بها أن تنبع من إرادة شعبية حين يكون هناك نضج فكري وسياسي واجتماعي وثقافي، وحين يكون هناك احترام لرأي الآخر، وحين يكون هناك إجماع على تقبل نتائج آليات التصويت والاقتراع ايا كانت كونها تمثل إرادة الأكثرية.

وثمة حقيقة أخرى تتمثل في أنها لا تستورد، ولا تفرض، ولا تزرع في غير أوانها أو تربتها، ذلك ان بذورها والحال هذه تموت ولا تؤتي أكلها. وحقيقة اخرى تتمثل في ان المهم في موضوع الديموقراطية هو وجود ديموقراطيين حقيقيين يمارسونها إبّان الاقتراع، وما بعده، حتى آخر مقتضياتها. وتبقى حقيقة الحقائق كلها ان الديموقراطية لا تثمر الا في مناخات الحرية والاستقلال والسيادة.

ونحن لا ننكر ان العالم العربي يفتقر الى الديموقراطية لاسباب كثيرة هي ليست موضوع حديثنا. الا اننا لا بد من الوقوف عند سبب رئيس لهذا الافتقار يخص الاستعمار الغربي للعالم العربي. لقد "اعطى الاستعمار الكثير"، الا انه لم يفكر ان يدخل مستعمراته العربية مدرسة الديموقراطية، وتركها ترزح تحت ظلال انظمة سياسية دكتاتورية استبدادية قمعية كان له الدور الفاعل في ايجادها ودعمها وتأييدها حتى هذه الايام.

في العام 2001 وتحديدا غداة احداث ايلول / سبتمبر، طرأ تغيير على سياسة الولايات المتحدة الاميركية تجاه العالمين العربي والإسلامي. وأعلنت أنها بصدد محاربة الانظمة الدكتاتورية الاستبدادية، وإرساء قواعد الحريات الأساسية والديموقراطية فيها.

إلا أن الولايات المتحدة لم تكن جادة في طرحها هذا لا من حيث عدد الانظمة السياسية، ولا من حيث نوعية فحوى "المنحة الديموقراطية" الموعودة لاقطار هذه الانظمة. وكان واضحا ان السياسة الاميركية تستهدف في المرحلة الاولى افغانستان والعراق اللذين احتلتهما على خلفيات – مثالا لا حصرا - محاربة ما تسميه الارهاب، وبسط يدها على منابع النفط العراقي. ولا داع للخوض في هذه المنحة الديموقراطية التي شحنتها دباباتها وحاملات طائراتها وصواريخها الى هذين القطرين، فان اقل ما يمكن ان يقال في هذه الصدد انها اغرقتهما في بحور من الدماء والدمار والفوضى والتقسيم.

لقد تأكد بما لا يدع أي مجال للشك ان الحرية والديموقراطية اللتين بشرت بهما الولايات المتحدة كل المحرومين منهما ، ما هما الا قناع يستر الوجه الحقيقي للسياسة الاميركية، وهو قناع اصبح مكشوفا لا يستر عورة هذا الوجه ولا قبحه. وحتى الآن كان الفلسطينيون في حسابات السياسة الاميركية خارج اطار هذه اللعبة الديموقراطية. الا ان الولايات المتحدة الاميركية، ومرة اخرى ولحاجات في نفس السياستين الاميركية والاسرائيلية بدأت تعزف على اوتار انتخابات تشريعية في الاراضي الفلسطينية في سياق موجة الحديث عن الحرية والديموقراطية اللتين ما فتىء الرئيس الاميركي يكررهما في خطاباته لشعبه كمبرر لسياساته الخارجية.

ومع ان منطق العلوم السياسية يشترط قدرا من التحرر والسيادة والحرية والاستقلال للجماعات الانسانية التي تمارس الانتخابات، إلا أن ما جرى في الاراضي الفلسطينية خالف هذه القاعدة ، وهي التي ما زالت رازحة تحت وطأة الاحتلال ، ولم يحقق الفلسطينيون أياً من أهدافهم المشروعة بدءا بالتحرر من هذا الاحتلال ، واسترجاع أي حق من حقوقهم المغتصبة الاخرى، أو قيام دولتهم الحرة، والمفترض انها هي اولى الأوليات الفلسطينية.

وقد يكون للفلسطينيين مبرران اثنان لا ثالث لهما بقبولهم خوض اللعبة الديموقراطية. الاول ان يثبتوا للعالم انهم شعب على قدر كبير من المسؤولية والنضج السياسي، وانهم بلغوا مستوى حضاريا يؤهلهم ان يتبوأوا مكانتهم بين شعوب العالم الحرة. واما المبرر الثاني فهو ظنهم ان الانتخابات على طريق الديموقراطية قد تعجل في اقامة دولتهم وايجاد حل عادل لقضيتهم التي مضى عليها ثمانية وخمسون عاما.

الا ان الحسابات الأميركية والاسرائيلية كانت لا تتقاطع مع الحسابات الفلسطينية. لقد سمح للفلسطينيين ان يمارسوا لعبة الديموقراطية، او بصحيح العبارة ان يزرعوها ولكن دون ان يقطفوا ثمرتها فهي من منظور اميركي واسرائيلي ثمرة محرمة. وبلغة الواقع ان ما افرزته صناديق الاقتراع الفلسطينية من واقع جديد، وما اسبغته من لون سياسي آخر على المشهد السياسي الفلسطيني كان اما بمثابة صدمة غير متوقعة لكل من اميركا واسرائيل. او اما انهما كانتا تتوقعان هذه النتائج، وقد خططتا مسبقا لتوريط الفلسطينيين وكيل تهم الارهاب لهم، بغية فرض حلول من طرف واحد جراء انعدام شريك تفاوضي فلسطيني.

في اعتقادنا ان الطرح الثاني هو اقرب الى المنطق والعقلانية. فالاسرائيليون وهم مقبلون على حكومة جديدة يتحدثون عن انسحاب احادي من طرف واحد اضافة الى ترسيم حدود دولة اسرائيل. والولايات المتحدة تؤيد هذا التوجه.

ولنعد الى موضوع الديموقراطية. لقد لعب الفلسطينيون لعبتها على اصولها، وكانوا لايقلون عن سواهم من الشعوب العريقة في هذه اللعبة، وكانوا يأملون ان يحترم الآخرون ايا كانوا اميركيين او اسرائيليين او اوروبيين او عربا خيارهم وحقهم المشروع في الاختيار. الا ان شيئا من هذا القبيل لم ينالوه. وبدل ان يكافأوا عوقبوا عقابا جماعيا، حوصروا على كل الجبهات، وقطع الدعم المالي عنه ، وهي اجراءات لم يقصد بها الحكومة الفلسطينية بقدر ما قصد الشعب الفلسطيني الذي اختار هذه الحكومة، والذي تقع على كواهله اعباء تبعات هذه الاجراءات الظالمة.

وكثيرة هي الأسئلة التي يتداولها الفلسطينيون هذه الايام: اليست الديموقراطية مطلبا اميركيا واوروبيا ، فبأي حق يتنكرون لنتائجها؟ لماذا الاصرار الاميركي والاوروبي على اعتراف الفلسطينيين المجاني بدولة اسرائيل قبل اعترافها بالحقوق الفلسطينية؟ لماذا لا تنهي اميركا الاحتلال الاسرائيلي الذي ما زال يقود الفلسطينيين الى نكبة تلو نكبة في الارض والحرث والحجر والشجر والبشر؟ اين هي الوعود الاميركية بالدولة الفلسطينية؟ ام ان مصير الفلسطينيين لاسمح الله كمصير اخوانهم العراقيين قتل ودمار ودم على مذبح هذه الديموقراطية ؟

وكلمة اخيرة. ان الديموقراطية الفلسطينية مع انها سابقة لاوانها حقيقية بكل المقاييس الدولية، ولا غبار عليها، والمفترض ان تتعامل معها اميركا واوروبا على هذا الاساس كونها خيارا حرا للفلسطينيين. واما هذه الحرب الشرسة التي يصطلون بنارها فهي اولا واخيرا لن تثنيهم عن ثوابت قضيتهم المستهدفة، او ان تضعف من عزائم نضالاتهم المشروعة لاسترجاع حقوقهم السليبة. انها حرب ان دلت على شيء فانما على فقدان اميركا واوروبا لاي شكل من اشكال المصداقية ، وانجرارهما وراء الانحياز الاعمى وازدواجية معايير التعامل في القضايا الانسانية.
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية