بداية أود ان اطرح مفهومي لما يسمى المجتمع الدولي انطلاقا من صفة الدولي التي ينعت بها. في اعتقادي أنه من المفترض أن يشتمل على كل دول العالم، وأن تكون قراراته – أوامره ونواهيه، قبوله ورفضه، إقدامه وإحجامه – حائزة على غالبية الاصوات المشاركة في هذا المجتمع، والمفترض انها كل دول العالم، لا فرق بينها، ولا هيمنة لفريق على الآخر. وقد يبدو هذا طرحا مثاليا، إلا أنه يظل هو المفترض، وما عداه تجاوز لحدود المنطق. *) إلا أن الحقيقة شيء والواقع شيء آخر يخالف المفهوم الذي طرحته في مقدمة حديثي. صحيح أن هناك مجتمعًا دوليًا نسمع عنه نحن في العالم الثالث بعامة، وفي فلسطين والعالم العربي بخاصة. لكن هذا المجتمع الدولي ما هو إلا عبارة عن الدول الكبرى – الولايات المتحدة الاميركية في المركز الأول والفاعل، وحليفتها الاستراتيجية اسرائيل، وكذلك دول الاتحاد الاوروبي وبخاصة المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا في الدرجة الاولى.
*) وهناك دول أخرى مثل روسيا الاتحادية، والصين،فهي حين من الزمن ضمن هذه المنظومة لاعتبارات ومصالح خاصة، وأحيانا هي خارج هذه المنظومة، ولا يؤخذ برأيها ولا بما تبديه من ملاحظات او تحفظات او حتى انتقادات حادة وجادة على قرارات هذا المجتمع الدولي.
*) وباختصار فان هذا المجتمع الدولي القائم حاليا ما هو الا الدول الكبرى التي تملك القوة العسكرية المتطورة، ومنظومة المال والاعمال والاقتصاد والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والتجارة، وهي جراء هذه المقومات الخارقة ذات سيطرة ونفوذ فاعلين مهيمنين على بقية دول العالم، وقد اباحت لنفسها ان تتحدث باسمه، وان تفعل ما تشاء، مصادرة بذلك كل راي له.
*) وهكذا فان المجتمع الدولي الحالي كذبة اخترعتها الدول الكبرى، وغالبيتها ذات ماض استعماري لا تمت بصلة الى الشرعية الدولية التي اصبحت كطينة لينة تشكلها كما تشاء، كونها هي المشرع دون منافس لها كائنا من كان، وهي الخصم والحكم، والقاضي والجلاد، وهي ترى ولا ترى، وتسمع ولا تسمع، وتغضب ولا تغضب، وتشعر ولا تشعر، وتحب ولا تحب، وتسامح ولا تسامح، وتعطي ولا تعطي، وكل ذلك حينما تشاء ووفقا لمصالحها هي، وليس لمصالح أي طرف آخر. وهي اولا واخيرا الناطق الرسمي باسمه كونه حكرا عليها دون غيرها.
*) وهذا هو المجتمع الدولي الذي بلينا بهيمنته نحن شعوب العالم الثالث بعامة، والشعب الفلسطيني والشعوب العربية بخاصة. الا ان الادهى والامر ان هذه الكذبة الكبرى قد انطلت على كثير من الانظمة السياسية في العالم، وفي مقدمتها الانظمة العربية، فصدقت ان هناك مجتمعا دوليا يتحلى بالشرعية الدولية والمسؤولية العامة المطلقة، ويمثل شعوب العالم فخنعت له وسارت في ركابه منقادة مسيرة لا مخيرة، فارضة على شعوبها ما يملى عليها من رؤاه واوامره ونواهيه.
*) بعد هذه المقدمة، فما يهمنا نحن الفلسطينيين بصفتنا اصحاب قضية مشروعة مضى على تبعاتها الكارثية ثمانية وخمسون عاما تحت ظلال هذا المجتمع الدولي الذي افتقر الى ابسط قواعد العدالة. لقد تعمقت المأساة الفلسطينية وبخاصة بعد احتلال كامل التراب الفلسطيني، وازدادت عمقا واتساعا ابان انتفاضة الاقصى 2000 وما زالت، والله وحده يعلم ما ستؤول اليه، وما هو المصير.
*) وكثيرة هي القضايا الشائكة والعالقة التي تلقي بظلالها القاتمة على العلاقة غير الطبيعية بين هذا المجتمع الدولي وبين الفلسطينيين. ولنأخذ ثلاثة امثلة من عدة امثلة على ادارة ظالمة معادية لهذه العلاقة. المثال الاول يخص النكبة الفلسطينية من جذورها وما كان لها من تداعيات كارثية ما زالت قائمة، ضحاياها ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون على هوامش الحياة في منافي الشتات بعد ان هجِّروا قسرا وعدوانا من ديارهم، واغتصب منهم وطنهم التاريخي وارضهم وحقهم الطبيعي في حياة آمنة، وبعد ان شوه وطمس تاريخهم، فكانهم ليسوا من سكان الكرة الارضية، او انهم جاءوا من بطون تاريخها. انه مسلسل ماساوي لا تنتهي حلقاته لهذا المجتمع الدولي فيه دور المنتج والمخرج والمشاهد.
*) والمثال الثاني يخص الاحتلال الاسرائيلي لبقية الوطن الفلسطيني، وما افرزه من ممارسات قمعية فريدة من نوعها لم يشهد لها تاريخ الاحتلالات مثيلا، وهي متصاعدة الوتيرة في حدتها وقسوتها وشراستها طالت الارض ترابا وهواء وماء، واستهدفت البشر والحجر والشجر. وبرغم هذه المآسي والكوارث التي تنصب على رؤوس الفلسطينيين، وقف هذا المجتمع الدولي متفرجا صامتا حينا، واحيانا اخرى غير مبال ولا مكترث ولا آبه، وكأن ما يجري هو في كوكب آخر.
*) واستكمالا، كان من المفترض، وعلى اقل تقدير ان يتحرك ضمير هذا المجتمع الدولي، وبخاصة ان احدى دوله الكبار هي المملكة المتحدة " بريطانيا العظمى " التي صنعت سياستها النكبة الفلسطينية، منذ وعد بلفور المشؤوم، وابان فرض انتدابها على فلسطين في القرن العشرين المنصرم " 1918-1948 ".
*) والمثال الثالث يخص احد مطالب هذا المجتمع الدولي من الفلسطينيين، والمتمثل بالدخول في لعبة الديموقراطية التي دخلوها بكل نزاهة وشعور صادق بالمسؤولية، وبرهنوا انهم متحضرون وجادون، وعلى جانب كبير من الوعي والنضج السياسيين. وكان ما كان ان جرت رياح صناديق الاقتراع الفلسطينية بما لا تشتهي سفن هذا المجتمع الدولي. وكان مساء وكان صباح فاذا بالمشهد السياسي الفلسطيني قد تغير لونه، والمفروض ان هذه هي الديموقراطية بنكهة هذا المجتمع.
*) وبدل ان يكافأ الفلسطينيون على ديموقراطيتهم هذه، اكفهر وجه هذا المجتمع الدولي واسود وجهه وهو كظيم، واخذ يتهدد ويتوعد الفلسطينيين واصفا خيارهم بانه نزوع نحو العنف والارهاب، وانهم ما لم ينبذوه، وما لم يعترفوا باسرائيل، وبخارطة الطريق، فسوف يعزلون وينبذون ويعاقبون عقوبات جماعية مادية وسياسية، وهكذا فعلوا، وهم فاعلون.
*) ان الفلسطينيين لم يفاجأوا بسياسات هذا المجتمع الدولي ازاء قضيتهم اصولها وفروعها، وهم يعلمون يقينا ان هذا المجتمع الدولي مزدوج المعايير، منحاز قلبا وقالبا لاسرائيل، وها هو زيادة على كل ذلك يبتزهم بصورة بشعة، ويحاربهم في لقمة عيشهم وامنهم الاقتصادي طامعا من وراء ذلك ان ينتزع منهم تنازلات عن ثوابتهم الوطنية التي تخص القضية الفلسطينية واستحقاقاتها الشرعية لصالح المحتل الاسرائيلي.
*) وكلمة اخيرة، ان الفلسطينيين يعلمون يقينا وقد فقدوا عمقهم العربي، واصبحوا هدفا مفتوحا لاهواء هذا المجتمع الدولي، انهم قد اصبحوا وحدهم في مهب التحديات الجسام. وما عليهم والحال هذه الا ان يصبروا ويصابروا كما فعلوا في كل المرات السابقة. والاهم من ذلك يفترض بهم وقد حسموا خيارهم انهم كانوا يعلمون مسبقا نتيجة هذا الخيار. اما اذا كانوا يجهلون وفوجئوا بالنتائج، فهذه لا سمح الله مصيبة. وايا كان الامر فالفلسطينيون لن يموتوا جوعا، ولن يتمكن هذا المجتمع الدولي بكل سلبياته وانحيازه وغطرسته ان ينال من ثوابت القضية، ولا كرامة اهلها. وستبقى القضية لعنة تطارد كل من يحاول ان يطمسها.
www.lutfi-zaghlul.com