قبل ثمانية وخمسين عامًا، توقفت عقارب الزمن في ساعة التاريخ الفلسطيني المعاصر عند رقمين شاء لهما القدر أن يحتلا فضاءات الذاكرة الفلسطينية. العقرب الصغير ما زال يشير الى الرقم "1 "، والعقرب الكبير الى الرقم "48"، وهما معًا يشكلان الخامس عشر من أيار العام 1948، عام النكبة الفلسطينية التي بلغت من العمر هذه الأيام ثمانية وخمسين عامًا، وها هي تدخل عامها التاسع والخمسين، وليس ثمة بصيص من النور يلوح في آخر النفق لهذا المسلسل المآساوي الذي لا ينتهي.
يومها فقد "العالم المتحضر" ضميره، فتكالبت قواه العظمى على الشعب الفلسطيني، فأخرج ظلما وعدوانا وقهرا من دياره القائمة على أرضه التاريخية، لينفى الى خارج حدود الوطن الفلسطيني، وليصبح المواطن الفلسطيني الآمن لاجئا غريبا، ولتصبح الدار الفلسطينية خيمة أو مغارة، وليصبح الوطن منفى وشتاتا واغترابا، ولتولد الأجيال في غير أحضان أمها الأرض الفلسطينية.
ويومها كانت بريطانيا الامبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، تصول وتجول في مستعمراتها كما تشاء ويحلو لهاز وكانت فلسطين آنذاك احدى مستعمراتها، فارتكبت فيها جريمتها الكبرى بحق مالك أرضها الشرعي وهو الشعب الفلسطيني.
وعلى مدى نيف وثلاثين عاما هي عمر انتدابها على فلسطين " 1918 – 1948 "، وظفت بريطانيا بنود وعد بلفور " 1917 " بندا بندا، حتى آتت أكلها كأسا مرة دامية، ما زالت الاجيال الفلسطينية تتجرع مرارتها جيلا بعد جيل، فكانت النكبة في ذلك اليوم المشؤوم الخامس عشر من أيار 1948 ولا تزال مسلسل آلام شعب لا تلوح له
نهاية.
في الخامس عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا انهاء انتدابها على فلسطين، الا أنها زرعت في أرضها بذور مأساة انسانية كبرت مع الأيام، وخرجت الى أبعد من جغرافيا فلسطين بكثيرز ومن رحم هذه المأساة ولدت القضية الفلسطينية التي نفضت بريطانيا يدها منها، وكأن الفعلة النكراء هذه لم تقترفها أيديهاز وعلى مدى سنوات النكبة أدارت ظهرها للفلسطينيين، فلا حكوماتها العمالية، ولا تلك المحافظة حاولت مرة أن تحاسب نفسها، أو أن تنقذ ما يمكن انقاذه تحت ظلال هذه الكارثة التي صنعتها سياستها الاستعمارية.
واذا كانت الحكومات البريطانية قد التزمت جانب نفض الايدي والهروب من المسؤولية، والصمت في كثير من الأحيان فيما يخص القضية الفلسطينية، فان حكومة العمال الحالية التي يرئسها " طوني بلير " لم تكتف بما فعلته اسلافها، فربطت نفسها بسياسات الرئيس الاميركي " جورج بوش الابن " المعادية للفلسطينيين.
لقد تغاضت بريطانيا عن مسلسل المآسي اليومية التي يفرزها الاحتلال الاسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني، وبدل ان تتفهم حقيقة مشاعر الاحباط واليأس وخيبات الامل التي اغرق الفلسطينيون في مستنقعاتها، الامر الذي دفعهم للنضال من اجل استعادة حقوقهم التي كفلتها لهم قرارات الشرعية الدولية، فوجىء الفلسطينيون بانضمام بريطانيا بالذات الى جوقة المعادين لقضيتهم العادلة، الناكرين لها، الذين يدينون هذا الحق المشروع، ويصفونه باعمال عنف وارهاب.
واستكمالا، فان بريطانيا وهي الدولة التي يفترض انها احق من غيرها فيما ينبغي عليها ان تقوم به تجاه الفلسطينيين، ها هي تتنكر لخيارهم الديموقراطي، وتقف في صف الذين يحاصرونهم، ويحاربونهم في لقمة عيشهم، بغية ابتزازهم في ثوابت قضيتهم التي حافظوا عليها طوال ستة عقود من الزمن وما زالوا يحافظون،
رافضين مهما كانت التحديات ان يتنازلوا عن أي منها لاي طرف كائنا من كان.
واذا كانت هذه هي خلاصة السياسة البريطانية، فان مواقف الاتحاد الاوروبي التي تبدو في الظاهر أنها مغايرة للسياستين البريطانية والامريكية فيما يخص القضية الفلسطينية، الا انها في الحقيقة تنبع من مصالح لا مبادىء، وأنها في كثير من الاحيان تأخذ في الحسبان الحفاظ على مستوى علاقات لا تغضب كلا من أميركا واسرائيلز وعلاوة على ذلك – وهذا هو الأهم – فالاتحاد الاوروبي لا يتفهم كنه ما يناضل الفلسطينيون من أجله والذي يصفه في احيان كثيرة بأنه ضرب من العنف والارهاب منساقا بذلك وراء مفاهيم السياسات الاميركية والاسرائيلية المعادية، وليس موقف الاتحاد بأفضل منه في اللجنة الرباعية.
وباعتبارهم متحضرين، وعلى قدر كبير من المسؤولية واحترام القوانين الدولية، فقد عول الفلسطينيون على الشرعية الدولية المتمثلة في الامم المتحدة من خلال مؤسستيها الرئيستين "مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية".
وفي كل المرات اثبتت كل تجارب الفلسطينيين أن الامم المتحدة بكل مؤسساتها تعمل وفق آليات هيمنة الدول الكبرى عليها، وتحديدا الولايات المتحدة، وليس أدل على ذلك من الفيتو الاميركي الذي يقف للحق الفلسطيني بالمرصاد، ومن قبله ذلك الكم الهائل من القرارات الصادرة التي ظلت حبرا على ورقز انها بلا شك شرعية القوة
لا قوة الشرعية.
في الذكرى الثامنة والخمسين للنكبة الفلسطينية، فان الحديث عن سياسات الولايات المتحدة التي نصبت نفسها راعيا " للعملية السلمية "، يثير شجونا وأشجانا لا حدود لهاز ان الفلسطينيين قد أصبحوا على ادراك تام أن سياسات الادارات الاميركية سواء تلك الديموقراطية أم الجمهورية الحالية تكيل بمكيالين، ولها معايير مزدوجة، وأنها منحازة قلبا وقالبا لاسرائيل، ولا جديد في ذلك.
الا أن الجديد في السياسة الاميركية ما فعله الرئيس الاميركي جورج بوش الابن الذي أدخل على هذه السياسة نقلة نوعية، فأضاف اليها عناصر جديدة معادية الى أقصى حدود للقضية الفلسطينية، فأراد أن يكون " بلفور الثاني "، فأعطى وعده المشؤوم لشارون بافراغ هذه القضية من مضامينها، فألغى حق العودة، وأباح
الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بما فيها القدس، ومنح الاستيطان صك الشرعية الاميركية.
عربيا واسلاميا، فبعد ثمانية وخمسين عاما يتذكر الفلسطينيون أشقاءهم العرب والمسلمين الذين كانوا شركاء حقيقيين، يوم كانت فلسطين قضيتهم الاولى انطلاقا من انها ليست كأي قطر آخر باعتبارها جزءا لا يتجزأ من جغرافيا التاريخ والعقيدة الاسلاميين، وان القدس بأقصاها المبارك وصخرتها المشرفة ليست ملكا للفلسطينيين وحدهم، وان حق الدفاع عنها يفترض ان يكون على كل عربي ومسلم.
واليوم وبعد ثمانية وخمسين عاما هي عمر النكبة فقد الفلسطينيون العمقين العربي والاسلامي، وأصبح الشركاء على السراء والضراء لا مبالين ولا مكترثين أو أنهم متفرجون صامتون على ما يجري في أرض الاسراء والمعراج، ورحم الله عهد اللاءات والمقاطعة والثوابت القومية التي أصبحت شيئا من الماضي، ورحم الله تلك الحمية والشهامة والنخوة التي انطفأت جذوتها، وأصبحت رمادا تذروه رياح التقوقع والانقسام في مذبح التطبيع والدوران في فلك السياسة الاميركية.
على صعيد النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، وبعد ثمانية وخمسين عاما، فقد تمكنت اسرائيل من زرع ما تبقى من الارض الفلسطينية بالمستوطنات، واقامت الجدار الفاصل، وقطعت اشواطا بعيدة المدى في تهويد القدس، وصادرت كل ما تريده من الارض ما عليها وما فوقها وما تحتها، بعد ان قطعت اوصالها، وعبدت شبكة الطرق
الالتفافية الاستيطانية، ونصبت النقاط والحواجز الامنية والحدودية.
وها هي تضرب على اوتار ترسيم حدودهاز وكل ذلك يجري في اطار خطة انسحابها الاحادي، ضاربة "لاءاتها" عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية، وبمنظومة الحقوق الفلسطينيةز وكيف لا، وهي تحظى بمباركة الولايات المتحدة الاميركية وتأييدها المطلق، وصمت المجتمع الدولي، والاهم من ذلك كله فقدان القضية
الفلسطينية لبعديها العربي والاسلامي.
في ضوء هذا المشهد المأساوي، قد تظن اسرائيل ومن يقف وراءها أن الستار قد اسدل على القضية، وان كل شيء قد انتهى، متوهمة أن تسوياتها وحلول مشكلاتها الامنية مع الآخرين وليس مع الفلسطينيين، وأنها بعد ثمانية وخمسين عاما على النكبة وغياب السلام والأمن والأمان عن المنطقة ومساحة شاسعة من العالم تتجاهل
أن هناك عنصرا واحدا ووحيدا لاستتباب السلام وعودة الأمن والأمان، وهو بلا أدنى شك الحق الفلسطيني الذي اغتيل يوم الخامس عشر من أيار 1948.
واستكمالا، ودائما على الصعيد الفلسطيني، وهو الاهمز سيظل ايار أبجدية نكبة محفورة حروفها على جدار الذاكرة الفلسطينية حكاية أرض سليبة وشعب منفي عن وطنه التاريخي وشعلة اصرار على استرجاع الحق لا يخمد لهيبها مهما طال الزمن وتراكمت التحديات وتعاظمتز والشعب الفلسطيني في أيار 2006، وفي كل أيار آمن
وما زال يؤمن – وان وقع فريسة الاحتلال – انه لم يهزم وان عدوه لم ينتصر عليه.
واذا كانت النكبة مسلسل آلام واحزان لاينتهي، فثمة حقيقة لا ينبغي ان تغيب عن بال أي طرف كائنا من كان، مفادها ان ثوابت القضية الفلسطينية هي الاخرى مسلسل لا تنتهي فصوله، وهي ارث تتناقله الاجيال الفلسطينية بكل حرص وامانة، مؤمنة ايمانا مطلقا بمقولة خالدة ترجمتها قولا وفعلا : "ما ضاع حق خلفه مطالب".
وكلمة أخيرة لا بد منهاز غداة حدوث النكبة، قال القادة السياسيون الاسرائيليون يومها عن الفلسطينيين : "الكبار سيموتون، والصغار سوف ينسون".
وها هي النكبة تدخل عامها التاسع والخمسين، واذا كان الكبار قد ماتوا، فان اجيال الصغار جيلا بعد جيل لم تنس، ولن تنسىز ان النكبة ذاكرة شعب، ذاكرة وطن، لا تقوى الايام على اطفاء شعلتها مهما اشتدت اعاصير التحديات، وطال الزمن.