كانت الأحزاب الصهيونية، ولا تزال، ضد قيام دولة فلسطينية. في عقيدتها وسياستها، لا مكان ولا فرصة لقيام دولة أخرى غير الكيان الصهيوني بين البحر والنهر. دولة الفلسطينيين، إذا كان لها ان تقوم، فإن مكانها الضفة الشرقية لنهر الأردن. هذا ما أعلنه ارييل شارون قبل تسلّمه رئاسة الحكومة وعمل على تحقيقه بعد ذلك. الآخرون من الزعماء والساسة الصهاينة لا يقولون ذلك علناً إنما يعملون له ضمنا. لهذه الأسباب لم يوافق شارون ومن بعده إيهود اولمرت على “خريطة الطريق”، بل قدما في شأنها 14 تحفظاً. التحفظات لا تزال قائمة ومعظم الأحزاب الصهيونية تبناها ويتعاطى مع مسألة الدولة الفلسطينية بموجبها.
جورج بوش يعي هذه الحقيقة ضمناً ويتظاهر برفضها علناً. هو مع دولة فلسطينية الى جانب دولة “إسرائيل”، الاّ انه وافق عمليا على جملة شروط وتحفظات صهيونية في شأنها تجعل من قيامها أمراً شبه مستحيل. فقد بات واضحاً الآن انه اضاف شرطاً جديداً لإجازة إقامتها هو تنحي حركة “حماس” عن السلطة. اذا كان اولمرت وأشباهه ضد الدولة بمعنى مشروع دولة فلسطين - في الدرجة الأولى، فبوش ضد “حماس” أولا وآخراً. لماذا؟ لأن “حماس” في مفهوم بوش منظمة “إرهابية”، وطالما هو يشن حرباً على الإرهاب في جميع أرجاء المعمورة فلا يسعه الاعتراف بأية منظمة إرهابية من دون بقية المنظمات المماثلة. بعبارة أخرى، بوش ينظر إلى “حماس” كجزء من “الإسلام الراديكالي” الذي يشن على حركاته ومنظماته وسياسة زعمائه حرباً شاملة ويقدم للمنطقة بديلاً عنه هو “مشروع الشرق الأوسط الكبير”. أما اولمرت وبقية الزعماء الصهاينة فهم ضد “حماس” مثلما هم ضد أي منظمة أخرى للمقاومة، يتعاطون معها بمنطق براغماتيكي (ذرائعي) فيحاربونها أو يهادنونها بمقدار ما تمليه عليهم مستلزمات الصراع الوجودي المديد ضد الفلسطينيين والعرب أجمعين. حاربوا “فتح” كمنظمة مقاومة حربا ضروسا إلى أن اتاحت الظروف فرصةً لمهادنتها، فوقعوا اتفاقات اوسلو بالاشتراك مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تضمّ معظم المنظمات المؤسسة لها. اليوم، لا يمانع اولمرت وربعه في التعاطي مع “حماس”، وحتى الاعتراف بها، إذا ما تراجعت عن رفضها اتفاقات اوسلو وأعلنت اعترافها ب “إسرائيل” بشكل او بآخر. غير ان تراجع “حماس” واعترافها المنشود بدولة الاغتصاب والاستيطان - وهو أمر يبدو مستحيلا - لن يغير موقف زعماء الكيان الصهيوني من مسألة الدولة الفلسطينية، فهم ضدها وسيبقون ضدها لأنها نقيض المشروع الصهيوني وشوكة في خاصرته أياً كان حجمها ووزنها السياسي والكفاحي.
“حماس”، قيادةً وجمهوراً، تعرف حقيقة موقف الزعماء الصهاينة من مشروع الدولة كما من المقاومة في فلسطين المحتلة. لذلك ترفض الاعتراف ب “إسرائيل” لأن لا فائدة مرتجاة من هذا التنازل على الصعيدين السياسي والأمني. هي لا تعارض، بطبيعة الحال، قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة على أساس خطوط وقف النار في 5 يونيو/ حزيران ،1967 كما لا تعارض ان يقوم الرئيس محمود عباس (ابو مازن) بالتفاوض مع “إسرائيل” لتحقيق هذا الهدف. غير انها ترفض شراء سمك الدولة الموعودة من بحر الوعود الصهيونية المسمومة وغير المضمونة. موقفها الأخلاقي والوطني والشرعي هذا يجب ان يكون محكاً للكيان الصهيوني وأمريكا، كما ل(أبو مازن) تحديداً. إذا كانت الوعود صادقة، وفي مقدمها وعد “خريطة الطريق”، فلينفذها اولمرت وربعه، ومن ورائه بوش وفريقه، حسبما تضمّنته من مواقيت، وإلا فليفضح أبو مازن قبل غيره هذه الحقيقة المراد تغطيتها بشتى الذرائع والبراقع.
في هذه الأثناء يجب ان تدرك فصائل المقاومة الفلسطينية ومن يجاريها من أطياف الطبقة السياسية النابتة على حواشيها أو البازغة من مؤسسات المجتمع المدني، ان لا أمل في حمل “إسرائيل” وأمريكا على التراجع إلاّ باستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية والتوافق على نهج كفاحي، سياسي وقتالي، متقدم بعد انكشاف الموقف الأمريكي المخاتل والمتواطئ مع دولة العدوان والاستيطان. لا حلّ البتة بوقوف “فتح” خصوصاً واذرعتها الأمنية عموماً ضد حكومة “حماس” سعياً إلى تفشيلها وبالتالي انهيارها. هذا الاحتمال الذي تسعى أمريكا إلى تظهيره قبل انتخاباتها النصفية مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل لن يؤدي الى عودة “النظام” الفتحاوي القديم. بالعكس، ستترسمل إدارة بوش، كما اولمرت وربعه، على نكسة كهذه، لا سمح الله، لمطالبة أبو مازن و”فتح” وكل الجسم السياسي الفلسطيني بتجريد “حماس” و “الجهاد الإسلامي” و”شهداء الأقصى” و”الجبهة الشعبية” وبقية المنظمات المقاتلة من السلاح كشرط لاستئناف المساعدات المالية و... العملية السياسية. هل يغيب عن أذهان قادة “فتح” أن أعضاءها وأنصارها ومحازيبها هم المتضررون أولاً وآخراً من قطع المساعدات المالية وتجميد مردود الضرائب والرسوم العائدة للسلطة الفلسطينية، ما أدى إلى قطع الرواتب عن الموظفين ومنتسبي الأجهزة الأمنية ؟ أليس هؤلاء جميعاً من جماعة “فتح” وحزبها الحاكم ؟ وهل العقل الصهيوني الخبيث ورديفه العقل الأمريكي المتحامل على كل ما هو إسلامي راديكالي من البساطة بحيث يفوتان على الكيان الصهيوني والنظام الامبراطوري الأمريكي فرصة تراجع الفلسطينيين او تناحرهم ليبتزا الجسم الفلسطيني كله وينزعا من منظماته ومؤسساته جميع الأسلحة والأدوات الكفاحية ؟
لقد حذّر أبو مازن العالم، بعد خطبته أمام البرلمان الأوروبي، من ان الاستمرار في قطع المساعدات “سيجّمد الحياة، وسيكون هناك انفجار للغضب، وسيؤدي ذلك إلى وضع فوضوي لا يمكننا توقع نتائجه”. أبو مازن حاذر أن يصارح مستمعيه بأن إنفجار الغضب ونشوء وضع فوضوي لن يقتصرا على فلسطين وحدها، بل سيعصفان ببلدان عربية أخرى بكل تأكيد. ذلك ان أنظمة عربية عدّة ثبت اشتراكها في الحصار المصرفي الدولي الذي فرضته أمريكا على حكومة “حماس”، وهو تدبير ظالم يُدرك الرأي العالم الفلسطيني، كما الرأي العام العربي، أنه يشكّل حلقة في الهجوم الأمريكي الشامل على ما سمّاه جورج بوش في خطبته “حال الاتحاد” أواخر يناير/كانون الثاني الماضي “الإسلام الراديكالي”. فعندما تشارك أنظمة عربية في الحصار المصرفي على حكومة “حماس” وبالتالي في الهجوم على “الإسلام الراديكالي”، تعرّضُ نفسها لردود فعل عنيفة ليس من الفلسطينيين فحسب، بل من أبناء شعبها الذين ضاقوا ذرعا بسياستها تجاه قضية فلسطين كما بنهجها المعادي أيضا لقضية الحرية والديمقراطية في داخل بلدانها.
تعقّلوا ولا تهونوا أيها العرب.