«الطغيان» وصف بغيض كريه الى النفس البشرية، لأنه يهضم حريتها ويلغي استقلالها بشخصيتها، غير أن الطغيان يتشكل في صور متعددة، فأميركا في نظر العالم الآن تمثل قوة طاغية لا تقيم وزنا لشعوب الدنيا قاطبة، وهي في سبيل تحقيق مصالحها مستعدة لاستعمال القوة المفرطة ضد كل من يحول بينها وبين بلوغ مراميها. لكنها تتعامل مع ابنائها بطريقة تختلف بالكلية عن طريقة تعاملها مع الشعوب الاخرى، فالمواطن الاميركي يتمتع بالديموقراطية التي تتيح له عبر أدواتها وآلياتها الفاعلة محاسبة نظام الحكم بكل شفافية، مطمئنا الى ان تشريعات الدولة كفيلة بالقضاء على أي محاولة للاستبداد بالحكم والانفراد بصناعة القرار.
وثمة صورة أخرى للطغيان تتشكل حين تمتد يده بالعسف والبطش في الداخل كما في الخارج، فهتلر وستالين خير مثال لهذا النوع الطغياني، إذ كرّس الاول سياسة الحزب الأوحد ووظف طاقات الامة الالمانية لخدمة التوسع الخارجي متوخيا بذلك بناء امبراطورية الرايخ الثالث، وهو ما اقتضى التخلص من الديموقراطية وعسكرة المجتمع لتحقيق تلك الاحلام، والامر لا يختلف كثيرا بالنسبة لستالين فقد كان الاستبداد في نظره الوسيلة الناجعة لصناعة القرار الحاسم السريع لتحرير البلاد من الغزو الهتلري، وللتوسع بعد ذلك في الاتجاهات كلها لتحقيق ما عجز القياصرة الروس من قبل عن تحقيقه، وبالطبع فقد دفع الشعب الروسي ثمنا مكلفا من أجل ذلك.
غير أن الطغيان في العالم الثالث وخصوصا العالم العربي يتشكل في صورة مختلفة عن هاتين الصورتين، فليس ثمة أحلام توسعية وطموحات خارجية، إذ كانت محاولة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر آخر المحاولات العربية بقيادة تركية لبناء امبراطورية قوية.
وانحصر الطغيان بعدها في اتخاذ العسف والاستبداد مسارا أوحد لسياسة الشعوب المنكودة التي كانت قدرها ان تكون من نصيب أولئك الطغاة، والمضحك في الامر ان الطغيان يتلاشى تماما في التعامل مع الاعداء الخارجين، فالطاغية قوي الشكيمة في التعامل مع حركات التمرد على الواقع والمطالبة بالديموقراطية وليس أمامه من خيار سوى الفتك بها بكل ما أوتي من قوة، وإنك لتجد من روح العناد وقوة البأس في التعامل مع مطالب الشعوب المظلومة ما تفتقده في تعامل الطاغية مع أعداء البلاد، فهو معهم جانح للسلم دائما حتى لتخاله حمامة سلام، ومواقفة تتسم بالمرونة والليونة، فكل شيء عنده قابل للتفاوض، فقد خلق من طينة السماحة، وهو في أمانة السموآل في ما يعقد معهم من عقود ويبرم من اتفاقات!
وأخيرا يتساءل المرء عن سبب ازدهار هذا النوع من الطغيان في عالمنا العربي في وقت لا تدع رياح الديموقراطية فيه كهف استبداد إلا واقتحمته؟
والجواب: إن الطغيان يسكن نفوسنا، ويعشعش في قلوبنا، فالاثرة والأنانية تصبغ سلوكنا وشعارنا «أنا ومن بعدي الطوفان».
في مثل هذا المنبت الخبيث يولد الطغيان ويشب ويترعرع، فرجل الأمن الذي لا يتورع عن ركل المتظاهرين وينهال عليهم بعصاه الغليظة لا يهمه شيء سوى مرتبة الشهري والطموح الى نجمة جديدة لا يبلغها إلا بارتقاء ظهور هؤلاء الملاحقين، والموظف الذي يسرق جهود زملائه ليجيرها لصالحه لا يكترث بضياع عرق الآخرين للفوز بترقية، والتاجر الجشع الذي يرفع أسعار السلع لا يبالي بأحوال محدودي الدخل، فلا صوت عنده يعلو على صوت المال، فلا غرو إذاً ان يكثر الطغاة في عالمنا!