ان تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2006 لم يُشِِر إلى مفارقة عجيبة هي أن الولايات المتحدة التي استخدمت بعض الدول لاستنطاق المعتقلين تحت التعذيب كانت لا تخجل لاحقاً من دعوة قادتها إلى إجراء إصلاحات ديمقراطية!
في مؤتمر صحافي عقدته يوم الثلاثاء الماضي الموافق 23/5/2006 في لندن وأطلقت خلاله “تقرير منظمة العفو الدولية لسنة، 2006 حال حقوق الإنسان في العالم”، قالت الأمينة العامة للمنظمة ايرين خان: “لقد أقدمت الحكومات، فرادى وجماعات، على شل المؤسسات الدولية وتبديد الموارد العامة، سعياً إلى بعض المصالح الأمنية الضيقة، والتضحية بالمبادئ تحت ستار الحرب على الإرهاب، مع غض النظر عن الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان. ونتيجةً لذلك، تعيّن على العالم أن يدفع ثمنا باهظاً، تمثّل في الانتقاص من المبادئ الأساسية وفي الخسائر الفادحة التي لحقت بأرواح الناس العاديين وبمصادر رزقهم”.
هذه الكلمات النابضة بالحق والانتصار للحرية والكرامة لخّصت مضمون التقرير الطويل المترع بالوقائع والأدلة والقرائن والشواهد كما بالاتهامات والإدانات والأحكام التي ساقها التقرير الإنساني التاريخي ضد حكومات باغية وطغاة عتاة ومجرمين سياسيين محترفين في شتى أنحاء العالم.
ما كان تقرير منظمة العفو الدولية ليأتي على هذا المستوى الرفيع من الشمول والدقة والحرفية والجرأة لولا ان العام 2005 كان “عام المتناقضات”، كما وصفه التقرير، مقدماً لمسؤولي المنظمة كما لسائر مسؤولي منظمات حقوق الإنسان في العالم حافزاً قوياً للتسلح بالقيم الأخلاقية والعلم والجرأة من أجل رصد المخالفات والانتهاكات والجنايات اللاحقة بحقوق الإنسان والتحقيق فيها وتوثيقها وفضحها على مرأى ومسمع من الرأي العام العالمي. كشف التقرير بشروع مجلس أوروبا والبرلمان الأوروبي في إجراء تحقيقات في شأن ضلوع دول أوروبية في عمليات تقودها الولايات المتحدة من أجل “النقل الاستثنائي” من دون وجه حق للسجناء إلى بلدان يتعرّضون فيها لخطر التعذيب أو غيره من الانتهاكات. وأوضح أنه شيئاً فشيئاً، انكشفت أدلة جديدة على أن “بعض الدول الأوروبية كان شريكاً في الجريمة مع الولايات المتحدة، بإهدارها الحظر المطلق على التعذيب وسوء المعاملة، وإقدامها على توسيع نطاق التعذيب من خلال نقل سجناء إلى دول عربية معروفة بممارسة التعذيب”. غير ان التقرير لم يُشِرْ، في هذا السياق، إلى مفارقة عجيبة هي أن الولايات المتحدة التي استخدمت تلك الدول لاستنطاق المعتقلين تحت التعذيب كانت لا تخجل لاحقاً من دعوة قادتها إلى إجراء إصلاحات ديمقراطية!
الحقيقة أن انتهاكات حقوق الإنسان في عالمنا وعصرنا أضحت على قدْر من الشراسة والشمول والتكرار يتطلب نمطاً من المقاربة والمعالجة يتجاوز الأطر المحلية، كما يتطلب مستويات وصيغاً عالمية أكثر شمولاً وفعالية. صحيح ان منظمة العفو الدولية تضطلع بمهامها واختصاصها بمستوى عالمي وبنجاح ملحوظ، وتتمتع بسمعة عطرة ومكانة عالية في أوساط المثقفين والنقابيين وأصحاب المهن الحرة والضمائر الحية في شتى أنحاء عالمنا، الاّ أنها تفتقر إلى قاعدة نفوذ وازن وإلى أسنان وروادع وأصوات مسموعة في مراتب السلطة وأروقة النفوذ لدى قادة الشعوب.
إزاء تزايد انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية، وبسبب ما تمارسه الحكومات المتسلطة من خداع ورياء وإهدار للموارد العامة وافتئات على مصادر الرزق، أرى ان يصار إلى رفد منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات العاملة في إطار القانون الدولي الإنساني بنهج عمل متطور وأذرعة وأنشطة من شأنها تزخيم فعاليتها ومضاعفة إنتاجيتها على النحو الآتي:
* أولاً، انشاء هيئة أهلية عالمية ذات وقفية خاصة لتمويلها وإدامتها وذلك بمبادرة من منظمة العفو الدولية أو تحت رعايتها باسم “المؤتمر الأهلي العالمي لحقوق الإنسان”، يكون بمثابة برلمان عالمي دائم، ينعقد في دورة سنوية واحدة على الأقل واستثنائية عندما تدعو الحاجة، تتقدم منه الأمانة العامة لمنظمة العفو الدولية بتقريرها السنوي ليكون ورقة عمل لممثلي منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الإنسانية غير الحكومية في شتى بلدان العالم المشاركين في دورة المؤتمر (البرلمان) ومناقشاته، كما تُعرض فيه وتناقش تقارير أخرى متخصصة بنواح أو موضوعات معينة، وتُتخذ في شأنها جميعا قرارات وتوصيات، وتقوم الأمانة العامة لمنظمة العفو الدولية بتنفيذ ما يتعلق منها باختصاصها، على أن تتولى لجنة متابعة ملاحقة وتنفيذ ما يتبقى منها.
* ثانيا، وضع وإعلان “سجل شرف” سنوي بأسماء نشطاء شهداء قضوا دفاعاً عن حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية، ونشطاء رواد عملوا وعانوا وأنجزوا في الميدان نفسه. كذلك وضع وإعلان “سجل قَرَف” (ان صحَّ التعبير) بأسماء مسؤولين في حكومات ومديرين في مؤسسات عامة وهيئات خاصة أساءوا حقوق الإنسان والحريات العامة، ما يستوجب دعوة السلطات المعنية لملاحقتهم ومحاكمتهم أمام المراجع القضائية المختصة، الوطنية أو الدولية.
* ثالثا، مطالبة الأمم المتحدة بالاستماع إلى الأمين العام لمنظمة العفو الدولية في كل دورة أو جلسة تعقدها الجمعية العامة أو مجلس الأمن وتكون مخصصة للبحث في قضية أو شكوى تنطوي على انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية.
ليس من قبيل المغالاة القول إن انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية باتت تُمارس على نطاق عالمي، وإن حكومات ومؤسسات عامة وخاصة تتواطأ في ذلك على النحو الذي أشار اليه تقرير منظمة العفو الدولية الأخير. لذلك بات من المنطقي مواجهة هذه الظاهرة العالمية الخطيرة على نطاق عالمي أيضا.
الحقيقة أن الحكومات في عصر العولمة والاستقطاب الدولي والتكالب على السلطة وإساءة استعمالها، ونهب الموارد العامة للشعوب والجماعات، وإهدار مصادر رزقها، وتدني وسائل صحتها العامة وضماناتها الاجتماعية، لم تعد مؤهلة لتؤتمن على حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. ذلك كله يستوجب نهوض الإنسان، فرداً وجماعة، محلياً وقطريا وعالميا، إلى إمساك قضية حقوقه وحرياته بيديه في إطار أوسع تضامن ممكن مع شركائه في معاناة الظلم والاستبداد والافقار والتهميش.
كثيراً ما يُقال إن العالم أضحى، بفضل ثورة الاتصالات والمواصلات ونقل المعلومات، “قرية كونية”. هذه الحقيقة، بل هذه النعمة، أضحت في متناول الجميع، ولو بدرجات متفاوتة. معنى ذلك أن الجميع، مالكين أو غير مالكين، قادرين أو غير قادرين، ظالمين أو مظلومين، باستطاعتهم الافادة من تسهيلات “القرية الكونية” ووسائطها وأدواتها وفرصها، وبمقدورهم فرض حضورهم على العالم ومشاركتهم فيه.
كان ديكارت يقول: “أنا أفكر، اذاً أنا موجود”.
ان التفكير في عصرنا ما عاد وحده كافياً لاثبات الوجود وصون كرامة العيش. ثمة حاجة كيانية ليكون التفكير مقروناً بالتعبير والتدبير، بل بالمقاومة ايضاً بما هي اشهار وممارسة حيّة للوجود والصمود.
يا مُضطَهَدي العالم، اتحدوا!