حاولت “إسرائيل” مطلع الأسبوع تغيير قواعد اللعبة في صراعها المرير مع المقاومة الإسلامية “حزب الله” على طول الخط الأزرق وفي العمق اللبناني. اتضح من تدقيق تحليلات المحللين السياسيين والمراسلين العسكريين للصحف وقنوات التلفزيون الصهيونية أن جهاز “الموساد” كان وراء عملية اغتيال القياديين في حركة الجهاد الإسلامي الأخوين محمود ونضال المجذوب في حاضرة الجنوب اللبناني صيدا. بينما كان أعداء المقاومة الفلسطينية يهنئون أنفسهم على “إنجازهم” المثير، تلقت “إسرائيل” رداً قاسياً ونوعياً: فجر يوم الأحد الماضي ضرب صاروخ من طراز “غراد” موقع الرصد والتوجيه الجوي في جبل ميرون، قرب صفد، على بعد عشرين كيلومتراً من الخط الأزرق. الإصابة كانت دقيقة للغاية ومدمّرة. من المسؤول؟

سارع أبو عماد الرفاعي، مسؤول حركة الجهاد الإسلامي في لبنان إلى نفي علاقة منظمته بالعملية. بعد ساعات قليلة صدر بيان يعلن تبني الجهاد الإسلامي لها. ثم اتضح بعد مسارعة الرفاعي إلى تكذيبه مجدداً انه كان ستاراً لقيام “إسرائيل” بقصف مركّز طاول القرى الحدودية اللبنانية على طول الخط الأزرق من الناقورة غرباً إلى غجر شرقاً. في الوقت نفسه شن الطيران الحربي “الإسرائيلي” غارات متعددة على قاعدة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة في الناعمة بالقرب من بيروت وعلى أخرى في السلطان يعقوب القريبة من حدود لبنان الشرقية مع سوريا.حصيلة الهجمات “الإسرائيلية” كانت في الأرواح محدودة: شهيد وبضعة جرحى، وفي الماديات: تدمير جزئي لمنازل وأبنية في القرى الحدودية المضروبة. غير أن اللافت هو توصيف بعض أجهزة الإعلام الصهيونية لكل ما جرى:

* كان ثمة ادعاء بأنه جرى تدمير كل مراكز المراقبة التي أقامتها المقاومة الإسلامية على طول الخط الأزرق. الواقع أن لا مراكز ثابتة للمقاومة بل مجرد نقاط مراقبة، أكثرها متحرك، ولم تكن مأهولة ساعة القصف.

* كان ثمة ادعاء آخر حول مواقع مدفعية ومنصات لإطلاق الصواريخ جرى تدميرها وحرمان المقاومة منها. الواقع أن لا مواقع للمدفعية أو منصات للصواريخ ثابتة بل متحركة، وبالتالي لم تخسر المقاومة أياً منها في القصف المعادي.

* جرى تسريب معلومات حول إحباط عملية لاختطاف جنود “إسرائيليين” من موقع “نوريت” في القطاع الأوسط من الجبهة، وأن الجيش “الإسرائيلي” كان أعد كميناً لرجال المقاومة أدى إلى مقتل أحدهم، في حين ان بيان المقاومة أشار إلى استشهاد أحد عناصرها في الاشتباكات التي دارت في مزارع شبعا في القطاع الشرقي من الجبهة.

* جرى الإيحاء بأن حدّة القصف وفعاليته حملتا المقاومة على طلب وقف إطلاق النار لتخفيف الخسائر، في حين ثبت أن العكس هو الصحيح وأن المقاومة قصفت قيادة القوات “الإسرائيلية” في الجليل قبل خمس دقائق من الموعد المتفق عليه، عبر قيادة القوات الدولية في المنطقة، لوقف النار.

الحملة المصطنعة لتقليل خسائر “إسرائيل” وتكبير خسائر المقاومة استفزت، على ما يبدو، بعض المراسلين العسكريين والمحللين السياسيين “الإسرائيليين” بدليل مسارعتهم الى كشفها وتنفيسها. أحد هؤلاء المراسل العسكري للقناة العاشرة ألون بن دافيد الذي انتقد تهور القادة “الإسرائيليين”، وبينهم قائد فرقة الجليل العميد غال هيرش، في تضخيم الضربة التي وجههوها الى المقاومة، مؤكداً أن “حزب الله” لم يقل بعد كلمته الأخيرة. كما نوّه بن دافيد ب “المهنية العالية” التي تمّ بموجبها قصف موقع الرصد والتوجيه الجوي في جبل ميرون. أما المراسل العسكري لصحيفة “يدعوت احرونوت” أليكس فيشمان فقد أوضح أن قصف الموقع المذكور “يعتبر تصعيداً الى المستوى الاستراتيجي في المواجهة بما في ذلك احتمال المواجهة مع سلاح الجو”. بعد أن حطّ غبار القصف والاشتباكات يمكن الاستنتاج أن القيادة “الإسرائيلية” رمت من وراء عملية اغتيال الأخوين المجذوب امتحان جهوزية المقاومة اللبنانية ومدى استعدادها للرد بالتعاون مع منظمات المقاومة الفلسطينية العاملة في الداخل. كانت تؤمل بإمرار عملية الاغتيال دونما ردود فعل. حتى لو قامت المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية بالرد فإن القيادة “الإسرائيلية” كانت تؤمل بأن يكون محدوداً وقريباً من الخط الأزرق. لكن الذي حدث أن المقاومة، سواء اللبنانية أو الفلسطينية، اختارت أن تضرب في العمق “الإسرائيلي” فقصفت موقع ميرون البالغ الأهمية ثم موقع قيادة فرقة الجليل الذي لا يقلّ عنه أهمية، وقرنت ذلك كله بمباشرة اشتباكات واسعة مع العدو في منطقة مزارع شبعا.

ما مغزى هذا كله؟

لقد أخفقت “إسرائيل” في تغيير قواعد اللعبة التي أرساها “اتفاق نيسان” للعام 1996 الذي كرّس حق المقاومة بالرد. ما فعلته المقاومة، إذن، هو ممارسة هذا الحق بفعالية ملحوظة أمكن معها الاستنتاج بأنها قوة رادعة فعلاً ومصممة على استعمال حقها بالردّ الرادع، وأنها أفلحت في ذلك.

ماذا يمكن أن يحدث في المستقبل؟

إن الجواب يتوقف على الأهداف التي تتوخاها أطراف الصراع في المديين القصير والمتوسط.

لعل “إسرائيل” معنية، مرحليا، بأمرين:
(أ) تنفيذ “خطة الانطواء”، أي الانسحاب بصورة منفردة من الضفة الغربية بعد استكمال بناء الجدار الفاصل وضم المستوطنات الكبرى القائمة شرقيّه وبالتالي تحديد حدودها من دون مفاوضة الفلسطينيين، و(ب) التربص بالمقاومة اللبنانية “حزب الله” وبسوريا والضغط لإضعافهما سياسياً وعسكرياً بالسعي لتنفيذ قراري مجلس الأمن 1559 و1680. كل ذلك بقصد تأمين جبهتها الشمالية والشمالية الشرقية للمشاركة في ضرب إيران إذا ما وجدت الولايات المتحدة هذه المشاركة لازمة في حربها المحتملة الرامية إلى منع إيران من حيازة أسلحة نووية.


سوريا متوجسة من سياسة الولايات المتحدة “وإسرائيل” تجاهها، ومتخوفة من احتمال جنوح إدارة بوش إلى ضرب منشآت إيران النووية، وبالتالي إضعافها سياسياً وعسكرياً. كل ذلك يؤدي إلى كشف ظهر دمشق وربما يدفعها من الآن إلى درس سبل الردّ على التحالف الأمريكي - الصهيوني بتفعيل جبهتي لبنان والجولان بطريق تمكين منظمات المقاومة، لاسيما الفلسطينية منها، بتصعيد عملياتها ضد “إسرائيل”. لبنان المتحوّل ساحة صراعٍ وتجاذب بين الولايات المتحدة وفرنسا و”إسرائيل” من جهة والمقاومة اللبنانية (والفلسطينية) وسوريا وإيران من جهة أخرى يبحث بصعوبة عن توازن دقيق بين أطرافه السياسية المتصارعة بلا كلل. صحيح أن القوى السياسية المعادية ل”إسرائيل” ولسياسة إدارة بوش في الداخل وفي المنطقة ترى مصلحتها الوطنية في الهدوء والاستقرار وعدم إعطاء “إسرائيل” فرصاً للتخريب والإيقاع بين الأطراف المتصارعة، إلا أنها ستجد نفسها مضطرة الى التصدي والتصعيد إذا ما قرنت القوى الموالية للولايات المتحدة وفرنسا مساعيها للسيطرة الكاملة على مقاليد السلطة ومرافق البلاد بالتواطؤ مع تينك الدولتين في مساعيهما الرامية إلى تجريد منظمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية من السلاح، واستخدام لبنان منصةً للضغط على سوريا وتقويض نظامها.

الصراع مستمر ومتصاعد ومفتوح على شتى الاحتمالات.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية