كثيـرون يسمّونه الزمن العربي الرديء. متى كان زمننا غير رديء؟ هل عندما ذوّبنا عروبتنا في إسلامنا وارتضينا الدين الحنيف هويةً سياسية وحضاريـة لنا في زمن السلطنة العثمانية التي سيطرت على معظم القارة العربية؟ أم كان زمننا غير رديء بعد انهيار السلطنة أواخر الحرب العالمية الأولى العام 1918 وظهور حكامنا الجدد الخاضعين، اضطرارا أو اختيارا، للأوصياء الأوروبيين المستعمرين ومن ثم للأمريكيين الطامعين؟ حتى بعد أن تذوقنا طعم الحرية والكرامة لسنوات قليلة في عهد جمال عبد الناصر، هل ساعدناه وساعدنا أنفسنا للخروج من الزمن الرديء، زمن الهزيمة وواقع التجزئة والشرذمة والاستبداد؟
لعل أبرز مزايا عهد عبد الناصر، إلى ميزةِ إشعارنا بلذة الحرية وطعم الكرامـة، انه شكّل في ذاته أول مرجعية قومية في تاريخنا المعاصر، إذ انفتحت معه الأمة على نفسها، متجاوزةً عوائق وحواجز، ومخاطبةً العالم بلسان واحد، ومتطلعة إلى أهداف عليا مشتركة.
مع غياب عبد الناصـر غابت المرجعية القومية وتعطلت اللغة السياسية الواحدة، وانحسر التطلع إلى أهداف عليا مشتركة. بل أن التراجع، السياسي والاجتماعي، الذي أعقب هزيمته وهزيمتنا في حرب 1967 أعادنا تدريجاً إلى الزمن الرديء. وما الزمن الرديء؟ انه حال غياب المرجعية، وانعدام الإرادة، وتجذّر التجزئة، وتعاظم الاستبداد، واستشراء الفساد، وسيطرة الهيمنة الأجنبية.
ليس من المغالاة في شيء القول إن حال الأمة اليوم شبيهةٌ بحالها في الجاهلية قبل الإسلام. وما الجاهلية؟ ألم تكن الجهل والجهالة وتعدد الأرباب والأحزاب واختلاط الأنساب واستشراء الفساد والنفاق ومساوئ الأخلاق وعبادة أصنامٍ من تمر تصلح تارةً للتضرّع وذرفِ الدموع وتارة أخرى للأكل وسد غائلة الجوع؟
زمننا الرديء، اليوم، هو جاهليتنا الجديدة بمعظم أمراضها ومساوئها ومظاهرها.
في فلسطين احتلال صهيوني استيطاني سرطاني، وبعده ومعه حصار تفرضه أمريكا وأوروبا بقصد التجويع والترويع والإذلال، فلا يلقى عند أهل السلطة إحساسا بخطر وجودي يستوجب الوحدة وترفيع مستلزمات المواجهة بل يتسبّب بانقسامات جديدة خطيرة محورها السلطة وقد أصبحت غايـة في ذاتها، فينحدر أهل السلطة إلى مهاوي حربٍ أهلية يلتزمها البعض، بوعي أو بغير وعي، لمصلحة الأعداء بحماسةٍ ملحوظة ضــد " حماس "....
في العراق يتحدث سيف العنف الأعمى بلغة الطائفية والمذهبية والقبلية، ويرسم بالجثث والرؤوس المقطوعة لصالح الاحتلال الأمريكي والعدو الصهيوني حدود عراقٍ ذبيح مُلقى على قارعة لعبة الأمم، لتتناهشه عصابات رجال ذئاب تدّعي الإنتماء إلى كردٍ في الشمال وسنّة في الوسط وشيعة في الجنوب.
في السودان انتقال مريب من محنة طال زمنها في الجنوب إلى محنة أخرى في الغرب، يُراد لها أن تطول في دارفور وجوارها، بينما تزكم الأنوف رائحة نفط وافر، تنبعث من بين مسام الرمال، فيسيل لها لعاب الأمريكيين والأوروبيين ويشدون إليها الرحال.
في لبنان عودة حثيثة لعهد القناصل والسفراء، يتقاسمون الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر والأفخاذ، ويتوسلون كما في سالف الأزمان بلغة العصبيات والثارات، " فهذا بناقوس يدقّ وذاك بمئذنة يصيح ". كل ذلك من اجل خلقِ حـالِ اضطراب وسلِّ سيفٍ وحرب في وسط لبنان وشماله، فيضطر معها أهل المقاومة اضطراراً – أو هكذا يظنّ أصحاب المخطط الأجنبي الشيطاني – إلى التلهّي عن مواجهة العدو الصهيوني في الجنوب بمراقبة أو مقاتلة بعضٍ من الأهل في الوطن الصغير المعاق بفعل طائفية خبيثة مزمنة.
في بلدان الخليـج تتراكم الثروات الفلكية بسبب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، فيأتي معها العمال والمستخدمون الأجانب، وجلّهم من شبه القارة الهندية، ليعملوا ويستوطنوا ويقيموا مجتمعات، وربما مستوطنات، تطالب في مقبل الأيام بالحكم الذاتي وحتى بالاستقلال تحت رايات حقوق الإنسان والديمقراطية وتقرير المصير، فتساندها دولتان نوويتان على الأقل، الهند وباكستان، فتقوم بين ظهرانينا بمرور الزمن وفقدان المناعة القومية وقصر النظر الوطني اسرائيلات آسيوية في شبه جزيرة العرب تحاكي في سلوكها وتطلعاتها إسرائيل الأوروبية المزروعة والمتمددة في بلاد الشام.
ما العمل؟
يقول ضمير العرب سليم الحص في مقالة عقدها أمس في صحيفـة " السفير" البيروتيـة " إن التخلف واقع يتميّز بقوة الاستمرار إلى ما لا نهاية، ما لم تخترقه فتبدّل مساره قوةٌ اعتراضية تتجسد إما بقيادة تاريخية خارقة أو بهبّة شعبية جارفة، ولا مردّ للتغيير الأمثل في حال تقاطع الظاهرتين".
لعل الرئيس الحص يفتقد مثلي المرجعية في حياتنا العربية. المرجعية أوسع من القيادة وأعلى منها. قد تكون هي نفسها قيادة في مرحلة من المراحل، لكن وجودها يبقى شرطاً لنشؤ قيادةٍ فاعلة.
المرجعية كيان مادي ومعنوي، متعدد المزايا والجوانب والأبعاد. قد تكون شخصا عالما متفوقا ملهما، وقد تكون هيئة مؤلفة من أصحاب كفاءات وإرادات ومواهب ورؤى، وقد تكون بلدا أو دولة فيها ذلك الكيان المرتجى بتجلياته الثلاثة.
لعل الحص أصاب برِهانِه على " هبّـة شعبية في طول الوطن العربي وعرضـه " تكون بمثابة قابلة قانونية لتوليد القيادة التاريخية المرتجاة. لكن الهبّة الشعبية المنشودة تبقى بمفاعيلها المبتغاة قاصرة عن توليد قيادةٍ تاريخية ما لم تنطلق من بلـد أو دولة تشكّل، بحجمها وتراثها وطاقاتها وشعبها وموقعها وواقعها ومرتجاها، كيانا مرجعياً قادراً على استيلاد القيادات التاريخية وعلى إطلاقها وتفعيلها وتثميرها.
هذا الكيان المرجع هو مصر. عليه ينعقد الرجاء مهما بدا حاضره متراجعا وحكومته مترهّلة. ثمة صحوة تعتمل في عروق قواه الحية وشعبـه الطيب، لا بد من أن تتفجر عاجلا أو آجلا هبّةً شعبية ترفع إلى قيادة البلاد كوكبةً من خيرة قواها الحية، تحاكي تلك التي رفعتها هبّةٌ مماثلة في مطالع الخمسينات من القرن الماضي.
مصر التي تستبطن في تراثها وحاضرها وتطلعاتها وآلامها وآمالها الكيان المرجع ترشّحها القوى الحية في شعبها كما في الأمة لتهبّ وتغيّر، وتقود وتعمرّ، وتخلَّص العرب من جاهلية العصر، وتصوغ معهم قواعد النصر.