تُلخّص إسرائيل، ومن ورائها أمريكا، قضيتها مع الفلسطينيين بعـــرضٍ”بسيط”: ينتهي كل شيء اذا أطلقتم الجندي “المخطوف”...
العرض ليس بسيطاً. فقد أنهت إسرائيل البنى التحتية الفلسطينية في قطاع غزة أو كادت حتى قبل ان تقدّم عرضها المسموم. ثم هي ترفض ان يكون جنديها أسيراً بل تعتبـره مخطوفاً. أن يكون أسيراً يعني أنها في حال حـربٍ مع الفلسطينيين. هذه تعطيهم حقوقاً سبق لإسرائيل أن أنكرتها عليهم، فلا مصلحة لها في العودة عن الإنكار. الإقرار بحال الحرب يعني الإقرار بوجود إحتلال وبمشروعية مقاومة الإحتلال. ثم أن الإحتلال يلقي على المحتل واجباتٍ وأعباء سبق لإسرائيل ان تحررت منها بفضل إتفاقات أوسلو و”خريطة”الطريق”، ولا مصلحة لها بأن تتحملها مجدداً بعدما أصبحت مسؤوليةَ الأمم المتحدة ظاهراً وأمريكا وأوروبا باطنا.
يُلخّص العرب والعجم والمسلمون وذوو الإرادات الطيبة القضية في سؤال”بسيط”: هل يعقل ان ينتهي كل شيء بمجرد ان تطلق المقاومة الجندي الأسير؟
السؤال ليس بسيطاً. فقد طرح الإجتياح الإسرائيلي المتدرج لقطاع غزة والتدمير الساحق الذي رافقه سؤالا آخر مقلقاً : الى أين من هنا؟ فقد أطاح الاجتياح بما تبقّى للسلطة ورئيسها من جدوى وهيبة، وهدّد”حماس”حكومةً ومقاومةً بسيف الإنتقام والإستئصال، وأنهى أو كاد وعد الدولة الفلسطينية”المزمع”إقامتها بجوار إسرائيل، وأرجأ تاليا لأجل غير مسمى إنسحاب قوات الإحتلال من الضفة الغربية، وأحلّ محل كل تلك الوعود المعسولة أمراً واقعاً جديداً هو تحويل الشعب الفلسطيني في سجنه الكبير – قطاع غزة ومعازل الضفة – جموعاً من المتسولين تطالب العالم ليس بتسديد رواتب موظفي”السلطة”وعسكرييها بل بتأمين قوت ألوف مؤلّفة من النساء والرجال والأطفال والشيوخ.
ما العمل؟
كان خطأ بل خطيئة أصلية الظنّ، مجرد الظنّ، بأن الصهيونية، فكرةً وحركة ً ودولة ً، ترضى بأقل من إستئصال الشعب الفلسطيني كشرط وضمانةٍ لوجودها وكيانها ومستقبلها. فقد تبنّت نهج المهاجرين الأوروبيين إلى القارة الأمريكية، وكان نهجاً قوامه إستئصال الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين، وعدم السماح لمن تبقّى منهم بإقامة مجتمع أو كيان مستقل ومجاور. تعيد إسرائيل منذ قيامها إنتاج هذه التجربة العنصرية بإمتياز وسط دعم أمريكي مكشوف عنوانه”الحق بالدفاع عن النفس”!
تفرّعت عن الخطيئة الأصلية خطيئة أخرى هي وقف المقاومة نتيجة إتفاقات اوسلو وبعدها”خريطة الطريق”. هل يُعقل ان يأمن إنسان لإنسان آخر يعلم، أو يُفترض به ان يعلم، أنه يبتغي إستئصاله؟
الواقع ان المقاومة دجّنت نفسها بإتفاقات اوسلو وخريطة الطريق والصراعات المحمومة في “السلطة”وعليها ، وكاد شطر منها ينخرط في حرب أهلية ضد شطر آخر وصل الى السلطة بإنتخابات ديمقراطية، فعزّ على الشطر الأول أن يتخلّى عن الصلاحيات والامتيازات والمغانم. في اختصار، كان حساب الجميع او معظمهم حساب سلطة وليس حساب مقاومة..
من مزايا عملية”الوهم المتبدد”انها بددت وَهْم الركون الى وعود إسرائيل وعهودها المجوّفة. ومن”مزايا”الاجتياح الإسرائيلي المدمّر لقطاع غزة إيقاظُ قيادات السلطة والحكومة ومنظمات المقاومة وتوعيتها بثقل الواقع المرير والأخطار التي تواجه الشعب الفلسطيني وسط صمت عربي رسمي مدّوٍ يصل الى حدّ التواطؤ.
آن الأوان لمواجهة كل هذه التحديات، المتحقق منها والماثل، بإعتماد نهج جديد مغاير وجذري قوامه استراتيجيا متكاملة على الأسس الآتية :
اولا، إعتماد المقاومة طريقا ونهجا للدفاع المديد عن الوجود وتفعيل الصمود، واعتبارها أولوية مطلقة.
ثانيا، ربط حركة المقاومة الفلسطينية بحركة الإسلام الجهادي على مستوى العالم كله بغية توسيع دائرة الاشتباك مع العدو في كل ساحةٍ متاحةٍ، ومحاذرة التورط في هذا كله مع حركات العنف الأعمى الأصولية.
ثالثا، تجديد وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية واعتبارها الكيان الشرعي الممثل للشعب الفلسطيني، والمرجعية العليا لقيادة كفاحه ومقاومته، ولإتخاذ قراراته الأساسية، والإطار السياسي والقانوني لتسوية الخلافات وتعبئة الجهود وتنسيقها.
رابعا، تأليف حكومة وحدة وطنية متكاملة يكون لـ”حماس”وجود وازن فيها وذلك للرد على محاولة إسرائيل إجهاض التجربة الديمقراطيـة الوليدة ( بطريق إعتقال نواب”حماس”ووزرائها لإفقادها الأكثرية في المجلس التشريعي ) ولتوفير قيادة فاعلة لإدارة الشؤون الحياتية للشعب الفلسطيني وذراعٍ تنفيذية للمقاومة المدنية.
خامسا، دعوة الشعوب العربية والإسلامية إلى تصعيد الضغط على حكوماتها من اجل تأمين مساعدات عاجلة وسخية للشعب الفلسطيني في محنته المتجددة، وتعميم ثقافة المقاومة على نحوٍ يجعل الأمة كلها، بقياداتها ومناضليها ومفكريها ومؤسساتها ومرافقها، معنية بما تواجهه الشعوب من أخطار وتحديات وحروب، ومسؤولة عن توفير مجهودات التعبئة والصمود والمقاومة، والمشاركة فيها بوجوه ووسائل مختلفة في إطار استراتيجيا متكاملة للمواجهة الشاملة.
دقت ساعة العمل الجذري والجدّي.