ماذا بعد؟
جاء الذي بعد فعلاً، وحدث ما تفاءلنا به تماماً، وما تشاءم به بعض الأصدقاء، نعم حدث التوافق الوطني الفلسطيني في الساحة الفلسطينية، ونشرت وثيقة الاتفاق وقرأها العالم، وضعت على الطاولة أوراقها المرتبة، واحتفظت بحدي المسألة الأساس، سليمتين من التقاطع والعطب، حد المشروع الوطني وتحديه، وحد الحقوق الثابتة وبرنامجها، مثبتة أن الهدف هو التوافق ليس استثناء طرف، ولا تجريده عن موقعه الذي وصله بصورة شرعية وديموقراطية، وأن الأصوات التي ألحقت نفسها وحاولت أن تحرف الهدف، بقيت نقيقاً لا قيمة له ، ومع ذلك ماذا كان الرد؟
في المشهد صورتان، واحدة لساحة أدركت لحمتها، وبدأت تسير من أجل العمل، ووقفت على أبواب كسر الحصار والتجويع، ومشاركة سياسية كاملة في شطب كل رهانات الاحتراب إلى الأبد، وواحدة لساحة أدركت فشلها الذريع، وعجزها عن أن تنال ما تريده، من التركيع والإملاء، فنشطت تعد لخطة الانقضاض، بنفسها، بعد أن فشلنت أدواتها وفشلت أنواع التوكيل، التي أعطيت لإنجاز هذا الهدف، وانتهى وقت اللعب الممدد وضربات جزائه، إلى صفر ينسخ نفسه على السطر، فقررت أن تقلب الطاولة.
الرئاسة الفلسطينية التي آثرت أن تقدم بالأحضان، ورقة حد البرنامج المرحلي، يبدو أنها بالغت كثيراً، واستهترت أكثر، ويبدو أنها لم تكن "متفائلة" إلى حدود الرقص العبثي فقط، بل كانت متمددة إلى حدود انعدام الوزن، في هذا الوقت الذي رقصت فيه، كانت حكومة العدوان تعلن عن خطتها المقبلة "للدحرجة" ، حتى قبل عملية الوهم المبدد ، لا يمكن القول أنها أخطاء قراءة من جديد، إنها أخطاء تكررت واقتربت من درجة الأمية في معرفة العدو ، ومثل هذا الخلل المكرر، لم يعد في الواقع مجرّد، اجتهاد خاطيء، بل أثبت الواقع أن معاودته، قد تعني نهجاً فاقداً لأبسط معقوليات الأداء، لا تنهض معه أي حجج وأي تبريرات للتخفيف من سقوط وزنه، وخطورته!
اليوم يأتي الرد الذي اختارته حكومة العدوان المستمر، على أبواب غزة والضفة، ضرب منشآت حيوية، فالجوع والتجويع لم يؤت ثماره، لا بد من التعطيش ومعه الخنق بكل معنى الكلمة، ليس فقط خنق المرضى في المستشفيات، التي لن تجد أجهزة حيوية تعمل فقط، بل سحب الهواء ذاته من رئات الفلسطينيين أياً كانت هذه النفس الفلسطينية، طفلة بريئة تتم عملية اغتيال مخزية لعائلتها بالكامل، أم شيخاً تسعينياً ذنبه المشي على قدميه!
هذه الحكومة المعربدة، والخارجة عن القانون والشرعية الدولية، والتي هي أشبه ما تكون بوحش فرانكشتاين، والنسخة الأحدث لمصاصي الدماء الخالدين، طالما استمروا في ضمان نسخهم هذه بالدم، لا تفهم لغة السلام من أي نوع ومن أي هيئة، سواء كانت اللغة التي تخاطب بها، لغة "أحضان راقصة"، أم كانت لغة أدمغة باردة تقطع الحوار بالمنطق والعقل، هذه الحكومة الفاجرة تفهم فقط لغة واحدة، هي ذات اللغة التي تجعل أظافرها مغروسة في حلقها، فلا تستطيع النطق.
أي قانون دولي وأي شرعية دولية، وأي منتدى حضاري يسمح اليوم، ليس فقط بالتغطية على جرائم مصاصي الدماء، بل وبالمقاولة في تقديم الضحايا لها على أطباق الصمت، وأطباق الصمم والبكم، وفي الوقت الذي تعلن فيه دولة القوة الكبرى تبريراً لها مقدماً، في عملية أشبه ما تكون بتحضير المقبلات، اعتقال حكومة فلسطينية منتخبة، واعتقال مجلس برلماني منتخب، واستهداف كل الحالة الفلسطينية اليوم، على هذا النحو الفج والصارخ عياناً بياناً، يعني أننا انتقلنا خطوة واحدة وأخيرة لانفلات المنطقة برمتها.
الآلة العسكرية التي اجتمعت مع المونديال على أبواب غزة، هي اليوم النسخة المتطورة للآلة التي اجتمعت مع مونديال 82 على أبواب بيروت، الفرق أن بيرتس وأولمرت ليسا شارون وبيغن، فهما جنرالات في محاولة التقليد، ولن ينتجا أكثر من نسخة لا قيمة لها، وغزة والضفة ليستا بيروت وصيدا، فهما فلسطين ولا رحيل عن فلسطين، والساعات هذه المرة تدور على راحتها، لن ينتظرها أحد ولا نعتقد أن المقاومة ضبطت توقيتها على شيء، اللهم إلا على توقيت مكررات عملية كرم أبو سالم ونظيراتها، صحيح أن الشهداء أبو عمار وأبو جهاد وأبو الوليد ليسوا هناك، لكن بالتأكيد من نفذ عملية كرم أبو سالم قد أثبت أنه تخرج من دورة جنرالات عالية المستوى، هؤلاء جنرالات حقيقيون، سيلقنون جنرالات التقليد دروساً جديدة سيسمعها العالم الأصم قريبا.