"الحرب العربية الباردة" مصطلح صكه الباحث الأمريكي مالكوم كير (أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا) ليصف حالة العلاقات العربية العربية خلال ستينات القرن الماضي، ورغم أن ما يبقى من الخلافات العربية العربية خلال العقد المشار حملات إعلامية قاسية دون مظاهر صراعية محددة – ربما باستثناء حرب اليمن – فإن هذه الأجواء تظل مؤشرا قويا لحالة من الإحساس بالاختلاف لها جذورها ويخشى أن تكون لها امتداداتها في الحاضر والمستقبل وما أحاط بالقمة العربية المزمع عقدها يشير إلى أن أجواء الحرب الباردة لم تتبدد تماما وإن كان منطق الحملات الإعلامية قد تجاوزه الزمن.

عرب المشرق والمغرب

ورغم أن الخلافات العربية تبدو سياسية آنية عارضة فإنها في الحقيقة مرآة لمشكلات بنيوية وشروخ عميقة في الخارطة العربية، فمن الناحية التاريخية وفي مرحلة مبكرة من تاريخ الحركة القومية العربية أصدر أحد روادها الكبار نجيب عازوري عام 1905 كتابه "صحوة الأمة العربية في آسيا التركية" داعيا لإنشاء دولة الوحدة العربية "من الفرات حتى برزخ السويس"، معتبرا الناطقين بالعربية في شمال أفريقيا من مصر إلى موريتانيا ليسوا عربا، ومن الناحية المعرفية كانت قضية عروبة المنطقة الممتد من المحيط الأطلنطي للخليج العربي موضوع مراجعات سياسية وعلمية معا، وثمة سيل من الدراسات تشكك في عروبة الكثير من الشعوب العربية كما تم تضخيم قضايا الأقليات وهو ما انتقل بعد سنوات من الأوساط الأكاديمية إلى دوائر صنع القرار.
وقصر العروبة على قسم من العالم العربي قضية تتجاوز الأبعاد التاريخية والمعرفية لتلقي بظلال كثيفة على مشاريع إعادة صياغة المنطقة التي بدأت تتحول إلى واقع بالفعل، ومن المؤشرات الملفتة في هذا السياق ما حدث في يونيو 2003 إذ شهد "مؤتمر العمل الدولي" الذي انعقد بجنيف ضجة تسبب فيها تقرير رسمي للمنظمة لتقسيمه العالم العربي إلى قسمين: "الشرق الأوسط" و"شمال أفريقيا" دون ذكر العروبة كهوية جامعة وصفة رسمية جعلتها كل الدول العربية ضمن اسمها الرسمي.

أشباح تعود للحياة

وقبل أن نعتب على هذه المنظمة الدولية – وموقفها مجرد مثال – نستعيد بعض المشاهد الحديثة نسبيا لـ "الحرب العربية الباردة"، ففي عام 2002 حظيت المبادرة السعودية لتسوية الصراع العربي الصهيوني سلميا بإجماع عربي علني إلا أن الكثيرين رأوا فيها تنافسا مصريا سعوديا نفاه الطرفان فازدادت المقولة انتشارا، وبخاصة أن المبادرة حرمت مصر إلى حد بعيد من دور الوساطة الذي منحها أهمية خاصة في نظر الولايات المتحدة لسنوات طويلة. وبحضور الأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن السابق مؤتمرا للمعارضة العراقية في العام نفسه وقبل الغزو الأمريكي للعراق بدأ "تلاسن" دشنه السياسي اللبناني وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني عندما استدعى صفحات من التاريخ العربي مستهدفا ربط الماضي بالحاضر حسب تصوره الخاص.

وفي تصريحه الذي أثار الجدل قال إن الثورة العربية الكبرى التي قادها الهاشميون بالتحالف مع بريطانيا ضد الحكم العثماني "كان هدفها المعلن وحدة البلاد العربية" إلا أنها "أنتجت تقسيما وأنتجت اتفاق سايكس بيكو وفيه كان المضمون الأول، ولا يزال، وعد بلفور". ولم يكتف جنبلاط بذلك، بل أضاف: "بعد تسعين عاما تقريبا تجتمع المعارضة العراقية في بريطانيا ويزورها الأمير الحسن الهاشمي، وقيل إنها زيارة عفوية"، ثم تساءل "هل هناك ثورة عربية جديدة تنتج تقسيما جديدا يتناسب وإسرائيل الكبرى؟".

وردت الأردن قائلة إن جنبلاط "لم يتجن على التاريخ فحسب بل حمل الأردن وقيادته حصرا مسئولية التصدي للمخططات الاستعمارية التي نفذتها وتنفذها الدول العظمى, من دون تحميل أي من الدول والأطراف العربية الأخرى في المنطقة أي مسئولية عن تقاعسها تجاه التصدي لتلك المخططات وكأن لا علاقة لها بالموضوع"، وتحول الرد الأردني على جنبلاط إلى تساؤل حافل بالغمز واللمز: "هل يعقل أن يتهم الأردن بالمسئولية التاريخية عن صوغ مستقبل المنطقة في الماضي والحاضر دون أن يكون لأي من دول الصمود والتصدي والشقيقات الكبريات أي دور في ذلك؟".

واشتبك الدكتور محمد الرميحي هو الآخر مع طرفي الحوار (جريدة الحياة 24/7/2002) فقسم الأمة العربية إلى جمهوريات وأنظمة وراثية وانبرى يدافع عن الأنظمة غير الجمهورية، فمعظم الأنظمة الجمهورية العربية جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري وأورثت الأمة فشلا في ثلاثة مهام: في التحرير بمعناه الواسع، "فمساحة الأراضي التي فقدها العرب في فلسطين في عهد الأنظمة الثورية فاقت تلك التي فقدت حين كانت الملكيات تتربع على سدة السلطة"، وفشلت في التنمية الاقتصادية، وفشلت ثالثا في التنمية السياسية، وهو ما قد يعني أن المسألة تتجاوز انفلات تصريحات حادة هنا أو هناك.

ومع المطالبة الأمريكية المتكررة بإقصاء عرفات بدأ غمز يشير إلى تنافس عربي عربي لفرض بديل لعرفات حسب رغبة هذه العاصمة أو تلك ، وكلها ترفض علنا إقصاء عرفات !!. لكن هذا التلاسن يخفي الكثير مما يجب التوقف عنده، ويكفي أن نختار عينة واحدة (جريدة الهلال الأسبوعية الأردنية 23/7/2002). فالمقال الوحيد في العدد خصص لهذه القصة بلغة ملؤها السخرية كما نشرت الجريدة نفسها خبرا مفاده أن زوجة عومير شارون (ابن رئيس وزراء الكيان الصهيوني) نصحت زوجة الدكتور نبيل شعث بضرورة أن يتحدث اللهجة المصرية كأول التأهيل للخلافة القادمة، للزعيم الفلسطيني المتمصر في لهجته أبو عمار!

وحرب اللهجات التي تتحدث عنها الجريدة مجرد واجهة لانقسام أعمق ، يعبر عنها الكاتب بقوله "فلسطين وزعامتها.. قصة ساحرة فتحت لهجة شعث المصرية المفاجئة الشهية للحديث عنها. فلسطين قضية تاريخية" و"فلسطين تاريخياً تتنازعها رغبتان، رغبة موغلة في الجنوب حتى جبل المقطم في القاهرة، وتلك تبعية تختزنها صدور أبناء الساحل الفلسطيني منذ تجربة القاضي الفاضل مع صلاح الدين.. ودائماً كانت هذه الرغبة جريئة في التعبير عن ذاتها.. ورغبة ثانية خجلى صوب الشرق والشمال، لدمشق وعمان أي البعد الشامي في فلسطين".

"والتمصّر والمصرية في فلسطين هوى وثقافة" و"هذا شيء له صلة قربى في الثقافة، لكن لا علاقة له في السياسة، إذ أن التاريخ علّمنا.. أن فلسطين حين يأتيها الزحف .. لا تستطيع أن تفطر بالتحرر أو بالنصر إن لاذت بمصر وحدها وأدارت ظهرها لحاضنتها الأولى الشام كلها"، ثم تأتي أكثر العبارات أهمية: "ولا أريد أن اتهم بأنني أروّج لدعوة خفية تؤدي إلى استعذاب أو تفضيل الانقطاع عن مصر، حاشا فمصر أم العرب..فمهما كانت الأم قاسية أو هرمة أو متجبرة" !!! "لكني ضد تبعية فلسطين في السياسة لمصر مثلما هي تبعيتها في الثقافة وفي الأدب والفن".

وحتى لا يظن بعض القراء حسني النية أن الأمر عارض نسترجع "خلفياته التاريخية"، فيقول كاتب المقال: "وبهذا المعنى، فان كل قادة فلسطين لمائة سنة خلت، حين كانوا يخلطون بين وجدانهم المصري المملوء بالثقافة المصرية وبين برامجهم السياسية، فان فلسطين كانت دوماً قضيتها خاسرة"!

"ولقد وصلت المجاملة والتعلق باللهجة المصرية في إحدى لقاءات الجزائر عام 1988 نطق حروف القرآن الكريم، في قراءة جديدة لأبي عمار حين أورد الآية الكريمة.أُذن للنين يقاتلون بأنهم ظلموا". استبدل الذال في كل حروف الآية بـ (الزاي) حتى اضطر المرحوم الشيخ عبد الحميد السائح رحمه الله أن يخرج عن طوره ويصحح عمار علناً (أُذن يا أ با عمار) وكان ذلك على مرأى ومسمع من الجميع"!

ما وراء القمم

ومع كل منعطف كبير تمر به المنطقة العربية تطرح للنقاش بقوة قضية العلاقات العربية ـ العربية بوصفها الأرضية الصحيحة لأي عمل عربي مشترك. وعلى إيقاع المخاطر، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على إنشاء جامعة الدول العربية، تقرر عقد القمة العربية دوريا وهو ما وصف آنذاك بأنه "تحول تاريخي"، رغم أن هذا التحول المشكوك في استحقاقه وصف "التاريخي" لم نستطع أن نهنأ به طويلا، إذ جاءت الخلافات حول القمة العربية لتضع العديد من علامات الاستفهام على مدى دقة الوصف الكبير الذي أسبغه المتفائلون على دورية الانعقاد. ولم تكن دورية القمة وحدها التحول العربي الذي يوصف بأنه تاريخي، فعندما زار الرئيس المصري بيروت بعد قصف إسرائيلي استهدف محطات كهرباء كانت الزيارة الأولى لرئيس مصري لبيروت منذ واحد وأربعين عاما. وقبل ذلك بقليل عندما قام الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية بزيارة لليبيا للمساهمة في حل مشكلة لوكيربي كانت سابقة في العلاقات بين البلدين. وبحضور الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد جنازة ملك الأردن الراحل الملك حسين كانت تحولا نوعيا في علاقة دولتين قربت بينهما الجغرافيا وفرقت بينهما التوجهات السياسية لسنوات طويلة.

ومن المؤكد أن من يتتبع مؤشر الزيارات الرسمية التي يتم تبادلها بين مختلف الأقطار العربية يخرج بنتائج مثيرة، فبينما يحرص حكام عرب كثيرون على زيارة العاصمة الأمريكية واشنطن مرة كل عام، ويترسخ الإحساس بأهمية الزيارة في دبلوماسية هذه الدولة أو تلك من التمهيد الذي يسبق الزيارة، ودرجة الاهتمام بها في الإعلام الرسمي، تكاد الزيارات الرسمية التي يتم تبادلها تقتصر على عدد محدود من الدول تتسم دبلوماسيتها بالنشاط. ويشكل المعدل مؤشرا واحدا، فإذا أخذنا مستوى التمثيل في هذه الزيارات، ومدى ما يعكسه البيان الختامي الرسمي الصادر عن كل منها من جدية المباحثات، وأهمية الموضوعات التي تتناولها، والنتائج العملية المترتبة عليها فسنخرج حتما بنتائج، قد يكون بعضها صادما، لكن من المؤكد أنها لن تخلو من فائدة.

عالم عربي أم عوالم؟

ولم تؤد كثرة الأزمات أو انتشارها في شرق الخريطة العربية وغربها إلى بلورة قاعدة ثابتة تكون أساسا للعلاقات العربية ـ العربية على المستويات كافة، وما زال ما أطلقت عليه في مقال سابق في "البيان": "دبلوماسية التحولات التاريخية" يحكم هذه العلاقات، رغم أن بناء نظام عربي قوي قادر على التفاعل مع الواقع يفيده العمل الهادئ الذي يتسم بالاستمرارية أكثر مما تفيده التحولات التاريخية التي تعزز الإحساس بأننا إزاء ظرف استثنائي، أو بالتعبير العربي الرائج "في لحظة فارقة من تاريخ الأمة"، وما زال الاستثنائي يمتد حتى صرنا نعيش "لحظة استثنائية ممتدة".

وعندما جاءت اللحظة التي تستحق أن توصف بالفعل بأنها "لحظة فارقة من تاريخ الأمة" وجدنا ما يمكن أن يطلق عليه "عوالم عربية" ما يكاد يجعل العلاقات العربية العربية لغزا محيرا. والانقسام الذي تبدو شواهده الآن هو في تقديري الأخطر في تاريخ العمل العربي المشترك إذ تبدو الخارطة العربية كما لو كانت قد انقسمت بالفعل إلى شطرين فكل ما يقع غرب مصر (المغرب العربي بمعناه الواسع) يبدو أكثر اقترابا من الرؤية الأمريكية للتغيير وهو ما يؤكده - إلى جانب الموقف الرسمي التونسي - تعاطف جزائري مغربي وتحولات جذرية في ليبيا في اتجاه الغرب. بينما مشرق العالم العربي يتبنى مواقف متفاوتة بدءا من القبول كموقف قطر مرورا بالتحفظ كالموقف السعودي وصولا للرفض الشديد لأي دور غربي في عملية التغيير أو في تحديد معاييرها وأولوياتها كموقف مصر وسوريا.

وبغض النظر عن تقييم موقف كل طرف أو اتخاذ موقف منه فإن العبرة الأخطر هو في درجة حدة الخلاف حول قضية من قضايا المستقبل شديدة الأهمية، فبينما تبدأ وثيقة "العهد والإصلاح" بتأكيد ثوابت الموقف من القضية الفلسطينية وتكتفي بالإشارة إلى وجود "نية" للإصلاح دون أي تحديد لأطره مقابل تأكيد على تعاون وتنسيق رسمي في قضايا الأمن والدفاع، وما زال الأمن قبل الدفاع! ! نجد الوثيقة التونسية تبدأ مباشرة بالحديث عن الإصلاح وتحدد "الديموقراطية" إطارا، أما الموقف من القضية الفلسطينية فيأتي في البند السادس.

وقبل التفكير في الانحياز إلى أي من الوثيقتين أو أي من المعسكرين ينبغي التفكير طويلا وطويلا جدا في التداعيات المحتملة لعودة أشباح "الحرب العربية الباردة".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية