أشعل سقوط صاروخ قسّام متطور في وسط عسقلان غضب إيهود اولمرت وزمرته الحاكمة. كان لسقوط الصاروخ وقع عليه أشد من إختطاف الجندي الأسير. فالصاروخ الجديد من صنع فلسطيني وليس مستورداً، ومداه لا يقل عن 15 كيلومتراً. مع سقوط الصاروخ على عسقـلان سقطت أمور أخرى بالغة الأهمية :
سقطت الخطة الإسرائيلية الرامية إلى احتلال مناطق في شمال قطاع غزة لتكوين حزام امني يمنع إطلاق صواريخ فلسطينية على المستعمرات الإسرائيلية المجاورة، ذلك ان مدى صاروخ قسّام الجديد يجعل الأحزمة الأمنية، في حالتها الراهنة، بلا جدوى.
سقطت عملياً خطة الفصل أو الإنسحاب المنفرد من غزة والضفة الغربية، ذلك ان الإنسحاب من طرف واحد لا يحلّ مشكلة بقاء رقعة فلسطينية كافية بيد المقاومة لإستعمالها منصة فاعلة لإطلاق الصواريخ ومتابعة الكفاح على طريق التحرير.
سقطت عملياً إتفاقات اوسلو و" خريطة الطريق " بتشديد قبضـــة " حماس " على مقاليد السلطة وإضطرار "فتح" وبقية المنظمات إلى دعمها بعد أسر الجندي الإسرائيلي والمطالبة بتبادل الأسرى وإطلاق النساء والأطفال المعتقلين.
سقط وعد جورج بوش بالدولتين المتجاورتين، ذلك ان إسرائيل قبل عملية أسر الجندي وبعدها، دمّرت بصورة منهجية معظم البنى التحتية والمرافق والمؤسسات العائدة للسلطة الفلسطينية المفترض ان تصبح نواة الدولة الفلسطينية العتيدة.
كيف سيكون ردّ اولمرت وزمرته في الحاضر والمستقبل المنظور ؟
لقد سارع رئيس الحكومة الإسرائيلية الى ترجمة غضبه جرّاء عملية عسقلان بإطلاق تصريح وإتخاذ قرارين. في التصريح اعتبـــــر ان " صاروخا يسقط في قلب عسقلان يشكّل تصعيداً خطيراً لا نظير له في حرب " حماس " الإرهابية، وستكون له عواقـب بعيدة المدى لا مثيل لها، وستكون " حماس " أول من يشعر بذلك (...) لقد أصدرتُ أمراً بمواصلة العمليات لضرب الإرهابيين ومن يحميهم ومن يصدر إليهم الأوامر. هذه حرب طويلة تتطلب قدراً كبيراً من الصبر وضبط النفس وتقديم التضحيات الكبيرة... علينا ان نعلم متى نكشّر عن أنيابنا ونوجه الضربة القاضية ".
أعقب التصريح قرار اتخذه اولمرت بدعوة المجلس الوزاري للشؤون الأمنية للإنعقاد للبحث في الرد على إدخال عسقلان في دائرة المواجهة. ثم أردفه بقرار ثانٍ قضى بتدميـر مبنى وزارة الداخلية في غزة، أو ما تبقى منه، بقنابل وصواريخ سلاح الجو.
يتحصّل من تصريحات اولمرت ومستهل قراراته انه يتجه الى إعتماد النهج الآتي :
• تشديد الضغط العسكري على الفلسطينيين في قطاع غزة، لاسيما على قياديي " حماس "، بإستهدافهم شخصياً بعمليات إغتيال ينفذها سلاح الجو. هــذا معنى قـول اولمرت :
" ستكون " حماس " أول من يشعر بذلك ".
• مدّ عمليات الإستهداف بالإغتيال إلى العمق الإقليمي، أي إلى سوريا ولبنان، لتطاول قياديين أساسيين في " حماس" و " الجهاد الإسلامي " وغيرهما. هذا معنى قول اولمـرت :
" أصدرتُ أمراً بمواصلة العمليات لضرب الإرهابيين ومن يحميهم ومن يصدر إليهم الأوامر ". ولا يُستبعَد أن تطاول هذه العمليات الخارجية بعض البنى والمرافق والمواقع السورية واللبنانية بدعوى ان حلفاء " حماس" و " الجهاد الإسلامي " قد وضعوها بتصرفهم " لحمايتهم ".
• ممارسة أشد الضغوط على سوريا والتلويح بأقسى التهديدات ضدها بواسطة الولايات المتحدة وعبر مصر والسعودية لحملها على إقناع قادة " حماس " المقيمين في دمشق بتسليم الجندي الأسير.
• المبادرة، في حال تمنّع سوريا عن إستجابة المساعي العربية والدولية، إلى استصدار قرار من مجلس الأمن يحثها على ذلك ويحذرها من عواقب الإستمرار في إيواء قادة المنظمات " الإرهابية " .
• التنسيق مع الولايات المتحدة من اجل جعْل ما أطلق عليه اولمرت " الحرب الطويلة " ضد الفلسطينيين جزءاً مـــن " الحرب على الإرهاب " التي يشنها بوش ضد ما أطلق عليه مصطلح " الإسلام الراديكالي "، ويعني به الإسلام الجهادي بما فيه إيران. وغني عن البيان ان القاسم المشترك بين أمريكا وإسرائيل في تحالفهما الحربي الراهن هو خوفهما المشترك من مخاطر السلاح النووي الإيراني. من هنا تنشأ أرجحية إدخال إسرائيل، سياسيا وعسكريا، كشريك فاعل في خطة بوش الرامية الى إعادة تشكيل المنطقة سياسيا وامنيا وثقافيا.
في هذا الصراع وإحتمالات تجلياته القريبة والبعيدة تبدو مصر والسعودية محرجتين للغاية. ذلك أنهما إتفقتا مع سوريا، بطلب من أمريكا، على وقف دعمها للقوى المناهضة للإحتلال الأمريكي بقصد تسريع إنسحاب أمريكا من العراق. وهو أمر من شأنه ان يفيد إيران التي ترى نفسها مطوقة بالقواعد الأمريكية من كل الجهات. غيـر ان إتجاه إسرائيل إلى " تأديب " سوريــا بدعوى مساندتهـــا لـِ " حماس " سيؤدي إلى إقتراب سوريا أكثر من إيران، والتوقف عن الإصغاء لنصائح مصر والسعودية، بل سيؤدي إلى إنزعاج إيران من موقف هاتين الدولتين العربيتين المنخرطتين بوساطة لمصلحة أمريكا وللضغط على سوريا. كل ذلك قد يفضي إلى قيام تحالف إيراني – سوري يستبطن تحالفاً مع المقاومة في كل من فلسطين ولبنان.
غير ان اشد ما يقضّ مضاجع المسؤولين في الدول العربية والإسلامية، سواء المعادون منهم لأمريكا وإسرائيل او المهادنون لهما، هو ان تنتهز هاتان الدولتان المعاديتان للإسلام واقعتي النزاع حول السلاح النووي الإيراني والصراع حول مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة وحقوق الشعب الفلسطيني من اجل إفتعال حرب عاتية تشمل معظم دول المنطقة، ويكون الغرض الأساس من ورائها تدمير سوريا وإيران ما يؤدي إلى إلحاق أضرارٍ شديدة بالسعودية ودول الخليج، وربما تفكيك وحدتها السياسية إلى عناصرها الأولى، الإثنية والقبلية والاجتماعية، على غرار ما فعلته أمريكا في العراق وما فعلته وتفعله إسرائيل في غزة والضفة الغربية.
وحده تضامن الدول العربية والإسلامية، وإعلان الأطراف المقتدرة فيها ان المسّ بأي واحدة منها سيشعل المنطقة ويوقف إنتاج النفط ويجعل مصالح الدول المعتدية في مهب الريح...وحده التضامن من اجل امتلاك القدرة كما القرار على النفع والضرر، لاسيما الضرر في هذه المرحلة، من شأنه ردع صنّاع الحروب وتجّارها وأعداء العرب والمسلمين في العالم.
إن التكلفة الباهظة للحرب عامل أساس في ردع صنّاعها وتجارها والمستفيدين منها، فهل من إرادة عندنا لإدراك هذه الحقيقة والعمل بموجبها ليبقى لنا وجودٌ ومكانٌ ودورٌ تحت الشمس ؟