من الحقائق المسلم بها أن العرب ينتسبون الى أمة واحدة. وإذا كان تاريخهم في الجاهلية قد عكس صورة أخرى عن انقسامهم وتشرذمهم وتعاديهم وتفرق كلمتهم وهيمنة روح الانتماء إلى القبيلة – وهي الكيان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الأصغر والأضعف والأقل شأنا – فهذا كله لا ينفي عنهم صفة الأمة المتجانسة عرقا ولسانا. وفي نفس الوقت ليس هناك دليل على أنهم تجاهلوا البتة كونهم عربا أصلا وفصلا، نسبا وحسبا، حتى في غمرة ذلك المشهد القائم على الفرقة والانقسام.
ومما يؤكد هذا الطرح الذي استهللنا به أنهم غداة ظهور الإسلام واعتناقهم له، أخذت تنهار كل الحواجز التي لعبت دورها في هيمنة المنظور الضيق جدا للانتماء ممثلا في القبيلة التي أفرزت النعرات العصبية لدى القبائل العربية. وقد تجلت هذه الحقيقة ايضا بإجماعهم على الحجيج إلى الكعبة، ومنحهم قريشا شكلا ما من اشكال السيادة على القبائل العربية.
إضافة إلى ما كانت تشكله الأسواق العربية قبل الإسلام من تعاون تجاري وثقافي واجتماعي. وهناك حقيقة أخرى تخص الأمم المجاورة لهم، والتي كانت تنظر لهم ليس من خلال قبائلـهم، وإنما من خلال المسمى الأكثر شمولا والذي يقارب مفهوم الأمة.
ويعود الفضل الأكبر إلى الإسلام الذي لعب الدور الرئيس في توحيد شتات العرب وابرازهم على خارطة العالم التاريخية والحضارية والانسانية والابداعية. ولسنا هنا بصدد هذه الحقائق التي لا تخفى على كل ذي بصر وبصيرة ورأي ورؤيا. ان ما يهمنا هنا ما آلت اليه امور هذه الأمة غداة ما اصطلح على تسميته " حركات الاستقلال " في منتصف القرن العشرين. وهي في اعتقادنا حركات استقلال محدودة من الاستعمار القديم توطئة لدخولها تحت ظلال الاستعمار الجديد بكافة أشكاله.
وكخلفية تاريخية لحديثنا، فلا بد لنا أن نتطرق إلى غياب العنصر العربي وهيمنة عناصر أخرى غير عربية على مجريات الامور في الممالك الإسلامية بعد العصر العباسي الاول. فقد تراجع العنصر العربي، الأمر الذي ادى إلى تقوقع كل قبيلة او عشيرة على نفسها في جغرافيا محدودة. وقد أخذ هذا التقوقع يستشري في كيان هذه الجماعات القبلية وتعمق وتجذر، وبخاصة إبّان الحكم العثماني.
ثم أنه تم تكريسه على شتى الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إبّان الاستعمار الاوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين المنصرم. فقد لعب دورا خطيرا تمثل في انه وجد أمة مقسمة مجزأة إلى قبائل شتى متقوقعـة على نفسها، فأكمل مشروعه بان اوجد لهذه " الكيانات القبلية " حدودا سياسية، وجعل منها دولا مستقلة تمام الاستقلال من منظوره " المتمثل باستقلالها التام عن بعضها البعض لا عنه ".
ولكي يطفىء جذوة الحنين إلى الماضي المجيد، وليقطع الطريق على كل تفكير وحدوي حقيقي، أدرك الاستعمار انه لا بد ان يأتي بصيغة فيها شكل من اشكال الوحدة الظاهرية وافقت عليه الانظمة العربية آنذاك وهللت له وكبرت، ونقصد به جامعة الدول العربية. وثمة حقيقتان حول هذه الجامعة لا شك فيهما.
أولاهما انها من بنات افكار السياسة البريطانية الاستعمارية آنذاك. وثانيتها انها اطار سياسي تلتقي فيه الدول او الانظمة العربية وكل منها يتمتع " بسيادة تامة " يستحيل التنازل عنها لأي هدف مهما كان وبخاصة في المجالات القومية الوحدوية. وهذه حقيقة وجدت هوى وصدى وتجاوبا لدى رموز الانظمة العربية وما تزال.
حتى الآن يكون قد مضى على تأسيس هذه الجامعة واحد وستون عاما. وتحت ظلالها تقوقع العالم العربي في قمقم السيادات القطرية الضيقة، وتمسك كل كيان بسيادته المطلقة على حدود الجغرافيا التي اختطها له الاستعمار آنذاك. وليس أدل على هذه الروح الاقليمية من النزاعات الحدودية بين العديد من الانظمة العربية، والتي لا تحمل في طياتها أية بادرة تهاون او تساهل او تنازل لبعضها، حتى لو اضطر الأمر إلى شكوى العرب على العرب في محكمة العدل الدولية.
وفي هذا السياق فمن الحقائق الاكيدة ان الحدود العربية الحالية أصبحت راسخة في التفكير السياسي للانظمة العربية، علاوة على انها اصبحت من دعائم السيادة الاقليمية الضيقة الأخذة في الاستشراء بين ظهراني هذه الانظمة القائمة اساسا عليها. ويكتمل المشهد الاقليمي في العالم العربي اذا ما أضفنا اليه مجموعة أخرى من الحقائق تتمثل في ان الانظمة العربية لم يكن لديها استراتيجية او خطة عمل لأي مشروع وحدوي سواء على الصعيد الثقافي او التربوي او الاقتصادي او السياسي او العسكري باستثناء التعاون الامني على صعيد وزارات الداخلية العربية. ولا تخفى اهدافه التي تنبع من حماية الانظمة وتكريس قطريتها.
ولا تخرج مؤسسة القمة العربية عن ذلك المسار. فهي في المحصلة لم يكن لها اي مردود يذكر من خلال ما ينوف عن خمس وعشرين قمة كانت ولا تزال تفوح منها رائحة المحلية والقطرية وترجيح المصالح الخاصة لكل نظام عربي على المصلحة القومية العامة. ويؤكد هذا الطرح ان كثيرا من الانظمة العربية لها وجهان فيما يخص - مثالا لا حصرا -القضية الفلسطينية.
فوجه يريد ان يحافظ على مصالحه مع الإدارة الاميركية، وهو من هذا المنطلق لا يقوم بتفعيل طاقاته وامكانياته وترجمتها إلى ضغوطات على هذه الإدارة، مع علمه الاكيد ان بيدها معظم مفاتيح الحل. وثمة وجه آخر يجامل القضية وشعبها باسم شعارات براقة ارتجالية ليس لها رصيد فعلي على ارض الواقع.
ويؤكد هذا ان القضية الفلسطينية أصبحت على ما يبدو إرثا ثقيلا وكابوسا، وجراء ذلك أخذ الاهتمام بها يتآكل مع مرور الزمن وتغير رموز الأنظمة العربية. واستكمالا فما يحدث في الأراضي الفلسطينية من مجازر بحق شعبها، وما آل اليه مآل القضية الفلسطينية من تردٍ في مهاوي جحيم الاغتصاب والتمزيق والتدميرهذه الايام على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية، وهو محصلة طبيعية لهذه السياسة، هو خير برهان على ما أسلفنا.
ان غالبية الانظمة العربية - ان لم تكن كلها - تهيمن عليها روح القبلية والعائلية والانتماء إلى الجغرافيا الضيقة جدا، او الهروب إلى تاريخ غير عربي ولا اسلامي، يمنحها على حد ادعائها ما تفتقر اليه في الواقع من رقي حضاري. واذا كانت هذه الانظمة قد تطورت ظاهريا، او لنقل انها وجدت نفسها امام طفرة فجائية من استخدام اساليب حضارية استهلاكية تحت ظلال تنمية تظاهرية.
وعلى صعيد آخر، فانها لم ترق بعد فكريا، ولم تنضج عاطفيا لتنتقل من مرحلة الفردية والتسلط الفكري إلى مرحلة التفكير الجماعي واحترام الرأي الآخر او التنازل له. وهذه اساسيات في التفكير القومي الوحدوي الذي تنتفي فيه الانانيات الفردية والرؤى الشخصية، ولا يكون الناس فيه مجرد رعايا لا مواطنين لهم الحق في ابداء الرأي او في مجمل العملية التشريعية.
لقد درجت الانظمة العربية من خلال منظومة سياساتها العامة على اتباع نهج افقد العروبة مضامينها الرئيسة، وابرز شعوبها وكأنها مجرد ناطقة باللغة العربية فحسب. فهذه الانظمة لم تقم بتفعيل الانتماء القومي وتحويله إلى مؤسسات بهدف تطويره والحفاظ عليه وابرازه كتكتل ثقافي حضاري اقتصادي سياسي عسكري في وجه التكتلات الدولية الأخذة في التطور والتجذر والتسرطن لافتراس الآخرين _ ومنهم شعوب الوطن العربي – وتحويلهم إلى مجرد ارقام استهلاكية في نظام عولمي لا يحترم الا الاقوياء، ولا يعترف الا بهم.
وخلاصة القول، هناك لا يزال طرحان على الساحة العربية. الاول يتمثل بالطرح القومي الجماهيري الذي يؤمن بصيغة الوحدة العربية الحقيقية ايا كان شكلها. الا ان هذا الطرح تقف في وجهه تحديات كثيرة داخلية وخارجية على كافة الصعد، وهو لذا يتأرجح ما بين اليقظة والغفوة، والغياب الطويل والحضور العفوي، والتفكير العقلاني والشعور الانفعالي، الا انه يظل حقيقة.
الا ان الطرح الآخر الثابت والمسيطر على الساحة العربية، فتمثله الانظمة العربية المتحكمة والمتنفذة والتي على ما يبدو، وخدمة لمصالحها وحفاظا على بقائها، تنحو صوب القطرية والوقوف عندها. والايام القادمة وحدها كفيلة بتحديد أي الطرحين ستكون لـه الغلبة في النهاية، وان كانت كل المؤشرات الآنية لا تبشر بالتفاؤل.