نعى أمين عام جامعة الدول العربيـة، عمرو موسى ”عملية السلام” عقب ارفضاض مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم السبت الماضي. وقال إن الولايات المتحدة سلّمت إسرائيل عملية السلام لتتلاعب بها كما تشاء ما أدى إلى إنهيارها، وأن العرب سيرفعون القضية إلى مجلس الأمن لينظر بها مجدداً. صباح الخير أيتها الأوهام! لولا غضبة الصحافيين الثائرين لما كان عمرو موسى اعترف بانهيار”العملية السياسية”. لعله كان سيلجـأ مرة أخرى إلى اللغة الخشبية إياها السائدة منذ نصف قرن ونيّف، ليطلق موقفا لا يشي إلاّ بالمزيد من الشيء نفسه. لكن بطولة المقاومة اللبنانية وتقنيتها العالية ونجاحها في نقل الحرب إلى العمق الإستراتيجي للعدو الإسرائيلي أعاد موسى وغيره إلى رشده القومي وحمله على النطق جهراً بما كان حريصاً على البوح به سراً.
نعم، إنهارت عملية السلام بعد نفاق أمريكي ودولي مبرمج دام نحو نصف قرن، فما العمل والى أين من هنا ؟
ميزان القوى في مجلس الأمن ما زال على حاله، بل لعله تطور لمصلحة إسرائيل في ضوء قمة الدول الصناعية الثماني في بطرسبرج. صحيح أن مؤيدي القضايا العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يشكّلون قوة وازنـة، لكن القرارات الصادرة عنها تبقى بلا أسنان ولا مخالب.
حتى لو افترضنا أن مجلس الأمن سيعتبر إحياء عملية السلام مسألة ملّحة وجديرة بالبحث فإن مجرد إدخالها في جدول أعماله لا يزيل الأفضلية المعطاة لمخاطر الوضع الميداني لحرب إسرائيل المدمرة ضد لبنان ومقاومته الباسلة. ثم هل من سبيل إلى أن نرتجي شيئا من المجتمع الدولي بكـل مكوّناته إذا كانت موازين القوى في المنطقة ستبقى في مصلحة إسرائيل ؟
لنرَ الأحداث، إذن بأحجامها، ولنضع الأمور في نصابها. ما قامت وتقوم به إسرائيل ضد لبنان تمّ بضوء أخضر أمريكي، وهو يهدف إلى الضغط على إيـران والتضييق عليها بغية الإذعان إلى ما تبتغيه منها أمريكا، في الدرجة الأولى، وبقية الدول الكبرى بصورةٍ عامة. فقد بات واضحا أنه ممنوع على إيران أن ترتقي الى مستوى قوة مركزية إقليمية، وأن تتملك قدرة نووية، وأن تتحكم بمنابع النفط وبطرق التجارة الدولية وأسواقها في المنطقة. لتحقيق هذا الغرض، أعطت الولايات المتحدة شريكتها الإقليمية إسرائيل ضوءاً اخضر لإضعاف إيران وحلفائها بمباشرة الحرب على لبنان بغية تفريغه من المقاومة تحت ستار تطبيق قرار مجلس الأمن 1559. غير أن إسرائيل عجزت عن إنجاز هذه المهمة بفضل المفاجأة المذهلة التي أعدتها لها وللآمة كلها المقاومة الإسلامية بقيادة سيدها التاريخي حسن نصر الله.
إخفاق إسرائيـل لن يعّوضه لجؤها إلى تدمير لبنان بصورة منهجية شاملة، بشراً وشجراً وحجراً. كل ذلك يستوجب إستشراف النتائـج الرئيسة المتداعية للحدث الجلل على النحو الآتي:
• المقاومة اللبنانية قادرة على منازلة إسرائيل ومنعها من تحقيق أغراضها المعلنة (إستعادة الأسيرين، ودفع مقاتلي حزب الله عشرين كيلومتراً بعيداً من حدودها الشمالية، وتطبيق أحكام القرار 1559) بل هي قادرة أيضاً، كما يبدو، على نقل الحرب إلى أعماقها وإلحاق الأذى بها وزعزعة تماسك جبهتها الداخلية. غير أن المقاومة عاجزة وحدها عن مواجهة الأزمة المعيشية والاجتماعية الناجمة عن تـدمير البنى التحتية، وتقطيع أوصال البلد، وإنقطاع الكهرباء والماء، والنقص في الغذاء والدواء، وتدفق النازحين من المناطق الجنوبية المدمرة والمنكوبة، وعجـز السلطات الحكومية عن إيوائهم والوفاء بمتطلباتهم.
• يُخشى، بعد إصرار الحكومة السعودية على وصف عملية المقاومة بأنها مغامرة غير محسوبة، ومبادرة النائب سعد الدين الحريري، زعيم الأكثرية النيابية الحاكمة، إلى تبني موقف السعودية والمزايدة عليها بلوم المقاومة جهاراً، يُخشى ان يؤدي ذلك كله إلى تفجير فتنة بين أهل السنة والشيعة. وغني عن البيان ان الفتنة و”الفوضى الخلاقة”هما في رأس أغراض الولايات المتحدة ووسائلها الشريرة المفضية إلى ضرب الوحدة الوطنية وشل البلد وتقسيمه كما جرى ويجري في العراق.
• إزاء هذه التطورات، ستضطر المقاومة الإسلامية وبعض السلطات اللبنانية غير الممالئة للولايات المتحدة وفرنسا إلى مضاعفة إعتمادها على سورية لتوفير الغذاء والدواء وتأمين التواصل مع العالم الخارجي. يُخشى، والحالة هذه، أن تلجأ إسرائيل بالتواطؤ مع الولايات المتحدة، إلى ضرب بعض المواقع والمرافق السورية ضرباتٍ تحذيرية. لكن، إذا ما تجاوزت سورية هذه الضربات وواصلت دعم لبنان فإن إسرائيل قد توجه إليها ضربات عسكرية شديدة بدعوى أنها تدعم المجهود الحربي للمقاومة اللبنانية. وفي هذه الحالة، فإن السؤال المطروح يصبح : ماذا ستفعل سورية ؟
هل تذعن سورية لإسرائيل بدعوى عدم التكافؤ العسكري، أم ترفض الإذعان وتقرر ردّ الصاع صاعين، مستندةً الى معاهدتها الدفاعية مع إيران، فتسمح بقيام مقاومةٍ شعبية، كما في لبنان، لتفعيل جبهة الجولان ضد إسرائيل؟ وهل تستبق إستكمال المقاومة تنظيمها وحركتها بشنّ عمليات خاصة يقوم بها مغاوير سوريون نظاميون، وتنسبها المقاومة السورية العتيدة إلى نفسها؟ ألا يؤدي تفعيل جبهة الجولان من طرف المقاومة السورية إلى تخفيف الضغط عن جبهة لبنان والى إيجاد مسوّغٍ إضافي لإحياء العملية السياسية في الأمم المتحدة ؟
ثم ماذا ستفعل إيران؟ هل تكتفي بدعم سورية سياسيا ولوجستيا أم تبادر إلـى إجراء إعادة نظر جذرية في موقفها من الإحتلال الأمريكي للعراق، فتـوظف نفوذها بين أهل الشيعة لتوجيه بنادقهم ضد قوات الاحتلال، وتعطيهم الضوء الأخضر لتوحيد جهودهم مع أهل السنّة المعارضين لأمريكا، ومع القوى القومية والإسلامية الناهضة بمسؤولية مقاومة الإحتلال منذ منتصف العام 2003 ؟
ماذا ستفعل أمريكـا؟ هل تكتفـي بتسليـط إسرائيل عسكريا، وبقسوة،على لبنان وسورية أملاً بتدميرهما كليا لحملهما، لا سمح الله، على الإستسلام، أو التسليم بمطالبها المعلنة، أم تراها تباشر هي بالذات حربها التدميرية الشاملة ضد إيران على غرار ما فعلته بالعراق في حرب العام 1991 وفي حرب العام 2003 ؟
ماذا ستفعل إيران في هذه الحالة ؟ هل ترضى بأن يكون مصيرها مصيرَ العراق، أم تراها تحسبت لهذا الإحتمال الخطير، فأنذرت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى بأن المساس بها سيؤدي إلى ردة فعل كاسحة وهائلة ومكلفة جداً تكون ضحيتها صناعة النفط في المنطقة، إنتاجا ونقلاً وإستهلاكاً؟
لعل إيران تدرك أن النفط هو جوهر الاقتصاد العالمي ومحوره ومحركه، وأن أهميته الإستراتيجية قد حملت أقطاب الدول الصناعية الثماني في قمة بطرسبرج على التمهيد لها بالتوقيع على ميثاق غير ملزم حول”أمن الطاقة العالمي”وتحديد مهلة نهائية لإنهاء مباحثات إتفاق التجارة الدولية. هذا التطور الإستراتيجي يخدم إيران لأنه يؤشر إلى قيدٍ ثقيل على إرادة أمريكا وحركتها، يمنعها من الإستهتار بها كدولة إقليمية كبرى منتجة للنفط أو من الإستهانة بردة فعلها المرتقبة حيال قيام دولة كبرى بشن الحرب عليها بغية تركيعها وشل وجودها ودورها.
لعل إيران تدرك هذه الحقيقة، كما تدرك خطورة موقعها الاستراتيجي الحاكم، فلا تتهاون إزاء ما يمكن أن تبادرها به إسرائيل او الولايات المتحدة من قرارات وتدابير واعتداءات تضع مصيرها في الميزان.
إذا كانت إيران تدرك هذه الحقائق وتلك المخاطر، فإن قرارها سيكون حاسماً إذا ما هاجمت إسرائيل سورية، وستكون ردة فعلها مساويةً في حجمها وفعاليتها لوجودها السياسي والحضاري ولدور العالم الإسلامي في الحاضر والمستقبل.