لم تمض ايام قلائل على آخر فيتو اميركي كان قد احبط الشكوى العربية الى مجلس الأمن حول ما يجري من عدوان عسكري على قطاع غزة والأراضي الفلسطينية ، حتى اعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية ، في ختام الاجتماع الطارىء لوزراء الخارجية العرب في مبنى جامعة الدول العربية ، تعليقا على العدوان الاسرائيلي على لبنان ، ان العملية السلمية في الشرق الاوسط قد ماتت ، وان الطريقة الوحيدة لاحياء عملية السلام هي الذهاب الى مجلس الأمن. ولسنا هنا بصدد مناقشة هذا التصريح ، ولا فحوى مشروع القرار الجديد الذي سوف يقدم الى مجلس الأمن ، ولا مشروع القرار الأخير فيما يخص احداث غزة ، او ما احدث عليه من تخفيض لسقفه ، او التنويه الى التعديلات الأميركية الإشتراطية المضادة التي افترض ان تشكل جواز مرور للمشـروع العربي ، فكل ذلك لا يجدي ، كون الفيتو الأميركي الذي كان متوقعا من اول لحظة ، قد حسم الأمر ، وانتهى كل شيء .

لا هذا ولا ذاك ما نهدف اليه من حديثنا . ان مبررنا لعدم الخوض فيما يدور في كواليس مجلس الأمن يتمثل في سيناريو مجلس الأمن قد تكرر عشرات المرات ، وكانت محصلته ذات المحصلة . ذلك ان أي قرار تشتم منه رائحة لوم لإسرائيل ، او عتب عليها ، او مطالبتها بعمل كذا او كذا ، فانه دون ادنى شك مرفوض رفضا قاطعا من قبل الولايات المتحدة الأميركية المهيمنة على مجلس الأمن الدولي ، والفيتو الأميركي جاهز وبالمرصاد .

انها ليست المرة الاولى التي تتوجه الأنظمة العربية فيها الى مجلس الأمن ، او انها تمنى بهزيمة فيه . فلدى الرجوع الى ارشيف ملفات الأمم المتحدة منذ نشأتها في العام 1945 وحتى اللحظة الراهنة ، فان الهزائم العربية في مجلس الأمن تحديدا تكاد لا تحصى . وفي هذا الصدد فانه يلاحظ أن هناك خطين لتعامل مجلس الأمن تحديدا مع تداعيات القضية الفلسطينية ، وهي اهم قضية واكثرها الحاحا وخطورة .

الخط الأول يتمثل في اصدار قرارات يمكن تصنيفها على أنها في صف القضية الى حد ما ، او بمعنى آخر تلك القرارات التي ما زالت الانظمة العربية تنادي بضرورة تفعيلها . ومن أشهرها والتي لم يكتب لمضامينها أن ترى النور القرارات " 181 ، 194 ، 242 ، 338 ، والقرار الشهير 1405 الذي صدر في العام 2002 ، والقاضي بتشكيل لجنة تقصي حقائق حول تداعيات الاجتياح الاسرائلي الكارثية في الاراضي الفلسطينية ، والذي الغاه الامين العام للأمم المتحدة بجرة قلم . وهذه القرارات صادرة عن مجلس الأمن وترفض اسرائيل تطبيقها ، وتؤيد الولايات المتحدة الاميركية عدم النظر فيها ، ولا تسعى باي شكل لتوظيفها على ارض الواقع .

وأما الخط الثاني في تعامل مجلس الأمن مع القضية ، فهو يتمثل في عشرات المرات التي قدمت فيها الانظمة العربية مشروعات قرارات الى هذا المجلس ، والتي أحبطتها الولايات المتحدة باستخدامها حق الفيتو الذي على ما يبدو كان ولا يزال سلاحا سياسيا اميركيا تم تجييره لصالح اسرائيل حينما تشاء .

فيما يخص مشروعات القرارات المقدمة من قبل الأنظمة العربية الى مجلس الامن ، فقد كان مصيرها في كل مرة واحدا من أربعة سيناريوهات . ويتمثل السيناريو الأول في تخفيض سقفها وافراغها من مضامينها الرئيسة . وبمعنى آخر تعرضها لصفقة تسوية هزيلة كيما تحظى بجواز مرور .

وأما السيناريو الثاني فهو التنازل عنها خشية تعرضها للفيتـو الاميركي . ويمثل استخدام الفيتو الاميركي الموجه آليا للقضية الفلسطينية السيناريو الثالث . في حين ان اللجوء الى الجمعية العمومية هو السيناريو الرابع ، حيث القرارات غير ملزمة . وبين هذا السيناريو وذاك تبقى القضية معلقة في الفراغ وفي حالة انعدام الوزن .

والمحصلة النهائية في تعامل الانظمة العربية مع الامم المتحدة بعامة ، ومجلس الأمن بخاصة على هذه الشاكلة هي الرهان الخاسر على نفس الحصان الأعرج في كل مرة . وفي تلك المرات التي خيل لهذه الأنظمة أن لديها ورقة الارقام الرابحة ، أو حتى ورقة الترضية تبين لها أيضا أن ليس لهذه الاوراق رصيد فعلي على أرض الواقع ، وأن المسافة بينها وبين تحصيل الاستحقاق كانت كالمسافة بين الحقيقة والحلم .

ان الأنظمة العربية تعلم يقينا هذه الحقائق ، وتدركها ادراكا واعيا ، منذ اول يوم فقدت فيه وزنها السياسي ، جراء انقسامها وتشرذمها وتعاديها ، وتقوقعها في قمقم السيادات القطريـة ، وتخليها عن ثوابتها القومية فيما يخص القضية الفلسطينية ، وما أفرزته من تداعيات كارثية طوال ستة عقود من الزمان على الشعب الفلسطيني حتى اللحظة المصيرية الراهنة .

وهذه الأنظمة على يقين ايضا ، أن مجلس الأمن خط أحمر أميركي ، وتحديدا فيما يخص إسرائيل ، كونها منطقة سياسية استراتيجية محظورا دخولها ، او حتى الاقتراب منها . الا ان الأنظمة العربية رغم هذا وذاك ، قد اتخذت من مجلس الأمن ملجأ تهرب اليه ، رغبة منها في عدم مواجهة افرازات القضايا العربية الخطير والملحة . الا ان حصادها كان ذات الحصاد المر المتمثل في الصفعات الأميركية لها .

وحقيقة الامر ، ليس ثمة من تفسير لهذا السلوك ، الا ان الانظمة العربية ، لا تريد ان تفعل شيئا ، او انها عاجزة او متعاجزة في وضعها الحالي عن فعل أي شيء حقيقي له وزن يذكر ، او انها لم يعد في ايديها شيء لتفعله . وبناء على هذه الحالات الثلاث ، فانها ذرا للرماد في العيون ، وحفظا لماء الوجه امام جماهيرها ، وايجاد مادة لاعلامها ، اختارت هذا السبيل ، وليس في اليد حيلة .

وعلاوة على ماذكرناه ، فان القضية الفلسطينية بكل ابعادها لم تعد تشكل هما سياسيا للأنظمة العربية . وهي في اغلبها تسير في ركاب السياسة الاميركية ولا تخرج عن اطارها أو تعصي لها أمرا ، بل اكثر من ذلك فان لبعضها علاقات مميزة مع اسرائيل . واخيرا لا آخرا فان لها همومها ومشكلاتها الخاصة بها . ويقينا ان المجموعة التي قدمت هذا القرار كانت تعلم مسبقا ان الفيتو هو ما ينتظرها .

ان العلاقة مع مجلس الامن ومن تسيره كان يمكن لها ان تتخذ مسارا غير الذي تتخبط فيه ولا تجني سوى الصد والفشل والاحباط وزوال هيبتها وتآكل وزنها العام امام جماهيرها . فالانظمة العربية تعلم علم اليقين ان التعامل مع مجلس الامن بوضعـه الحالي ، وبوضعها هي الحالي هو بمثابة " لجوء الايتام الى موائد اللئام " . وهو العبث ومضيعة الجهود والالتفاف على ما يفترض وما يفرضه الواجب القومي تجاه كل قضية عربية وبخاصة القضية الفلسطينية والقدس والمقدسات الاسلامية .

لقد سلكت الانظمة العربية ومعها الاسلامية مسار العجز والضعف والفرقة والاستجداء والاستعطاف ، وهي تملك كل وسائل القوة والعزة والمنعة التي لم تقم بتفعيلها او انها ترفض ذلك او حتى ترفض الاشارة لها في معرض علاقاتها مع الدول صاحبة القرار . وخلافا لذلك آثرت ولحاجة في نفوس اصحابها ان تسلك هذا المسار الذي لا يسمن ولا يغني من جوع . وهو ذات المسار الذي ما زال يجر الوطن العربي القهقرى ، فبات في حال يرثى لها ، لا يجيد الرهان . فمجلس الامن في حالته هذه رهان خاسر وأي خاسر .

ان الوطن العربي بامكانه ان يكون احد القوى الفاعلة والمؤثرة في السياسة العالمية خدمة لقضاياه واهدافه القومية . وان مجلس الأمن والجمعية العمومية ليسا ساحة نزال للضعفاء ، وان دبلوماسية الجري وراء استصدار المزيد من القرارت منهما ايا كان لونها وشكلها هو العبث واللهث وراء السراب . فالوطن العربي وان كان لا يملك حق النقض الفيتـو ، الا ان ثروته ومقوماته الاخرى هي اعظم فيتو في وجه كل الطامعين به والمستهينين بمقدراته انسانا وارضا ومبادىء .

وكلمة اخيرة ، لقد اكتشف المواطن العربي منذ زمن بعيد ان مجلس الامن هو مجلس الاقوياء الذين نصبوا انفسهم اولياء امور على العالم وقضاياه . وفي حقيقة الامر ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي اصبحت الولايات المتحدة الاميركية هي القوة العظمى الاحادية القطب .

وهي بالتالي المسيطرة على المنظمة الدولية والمتحكمة بمجلس امنها وكأنه اصبح جزءا لا يتجزأ من الادارة الاميركية . وان التعامل معه عربيا واسلاميا له محاذيره وأصبح له معايير اخرى غير تلك التي تأسس من اجلها . واذا كان ثمة من عيب ، فهو والحال هذه ، ليس فيه بقدر ما هو في الذين يعلقون مشاكلهم على شماعته ، وما زالوا يثقون به .
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية