نعى عمرو موسى، بلا أسى، "عملية السلام". حسناً فعل. ما عاد بإمكان احد من العرب والعجم والمسلمين أجمعين أن يرتضي العيش مع هذه الكذبة الكبرى .. غير أن إعلان الوفاة يستتبع طرح بعض الأسئلة: هل يعني وفاة "عملية السلام " ، أو العملية السياسية ، إستقالة العرب من دورهم ومن واجباتهم تجاه قضايا لبنان وفلسطين والعراق ؟

هل كان إعلان الوفاة محاولة ذكية لتنفيس الإحتقان ، ولا أقول الثـورة ، الذي يعتمل في صدور الناس على إمتداد القارة العربية وفي كل أنحاء العالم الإسلامي ؟

هل سيقول لنا الملوك والرؤساء : ها إننا قد رددنا الكرة إلى ملعب أمريكا والدول الكبرى والعالم اجمع ، وسوف نرى ماذا سيكون ردّهم او ردودهم عند عرض القضية رسميا لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن خلال شهر أيلول / سبتمبر المقبل .

هل معنى هذا الكلام ان الملوك والرؤساء اعفوا أنفسهم من أية واجبات تجاه لبنان وفلسطين والعراق خلال الشهرين المقبلين بدعوى إنتظار عرض القضية مجددا أمام المحافل الدولية ؟

إذا لم يكن هذا ما قصد إليه الملوك والرؤساء ، فما معنى ان يرفض بعض الدول العربية عقد قمة طارئة للجامعة ويتلكأ البعض الآخر في إعطاء جواب بينما أرواح العباد ومصائر البلاد في مهب حروبٍ وأهوال وكوارث ؟

بات تشخيص حال الأمة وأزمتها المزمنة معروفاً ، فهل يعقل ان يمتنع ملوكها والرؤساء عن الاجتماع للدرس والبحث وتبادل الآراء تمهيداً للتوافق على خطة وآليات للخروج من مستنقع القعود والهمود الى منطلق النهوض والفعل والتجديد ؟ وقبل ذلك كله ، أليس ثمة مسؤولية تقع عليهم لوقف النار وإزهاق الأرواح في لبنان وفلسطين والعراق ؟

صحيح ان معظم أبناء الأمة لا يثقون بقدرة الملوك والرؤساء على الفعل بعدما جرى إختبارهم طيلة نصف قرن ، وان عبء النهوض والفعل والتجديد يقع على عاتق القوى الحية في جميع ميادين الحياة . غير ان الملوك والرؤساء يبقون ، بحكم مواقعهم والسلطات التي بأيديهم ، مسؤولين عن مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل بقدر ما يطيقون ويستطيعون ، وإلاّ إنتفت الحاجة إليهم حاضراً ومستقبلاً .

كان الأمر ليهون لو ان بعض المسؤولين تلكأ في إعطاء جواب على الدعوة لقمة طارئة . لكن ما بال بعضهم الآخر يصرّ على محاسبة قادة المقاومة الإسلامية في لبنان وهم في عزّ مواجهتهم لعدوان دولة العنصرية والظلم والإستبداد ؟

مَن يحاكم مَن في عزّ الصراع والنزاع والقتل والخنق والحرق ؟ أية محكاكم غير المحاكم العرفية ، تعمل في زمن الحرب ؟ فهل ما قصد إليه بعض المسؤولين الإنشغالُ عن مقاومة العدو الذي يُمعن فينا تقتيلا وتدميراً وتهجيراً بالتفرغ لمحاكمة المجاهدين والمناضلين الذين يستحقون ، في كـل الظروف – لاسيما في زمن الحروب – أجراً وتنويهاً إذا جاهدوا وما أصابوا ، واجرين وتكريما إذا جاهدوا وأصابوا ؟

ثم ما بال المسؤولين ينسون أو يتناسون ان الدعوة إلى محاسبة المقاومة والمجاهدين والحرب دائرة إن هي إلاّ إنخراط في دعوة بعض الأعداء إلى الإقتصاص منهم ، وتجاوب مع بعضهم الآخر – جورج بوش تحديداً – الذي يشتري لأسرائيل الوقت من اجل ان تستكمــل ما تبقّى في " بنك الأهداف " من مجازر وكوارث وإغتيالات وإجتياحات ؟

أياً ما سيكون عليه موقف الملوك والرؤساء وما يُرتجى منهم وما ينعدم فيه الرجاء ، فإن عبء التفكير والتدبير يبقى مهمة القوى الحية في الأمة التي تمور في قلوب رجالها ونسائها وعقولهم أفكار التغيّر والتحرر والنقد والتجديد والهدم والبناء والإنماء .

ثمة ، في هذا المقام ، ملاحظات وتطلعات وطروحات وطموحات يمكن تظهير بعضها على سبيل الذكر لا الحصر.

ثمة فجوة عريضة من عدم الثقة بين الحاكمين والمحكومين ، تتسع بإطراد نتيجة عهود من الاستبداد والقهر والفقر وممالئة الاجنبي .

ثمة عجز مزمن عن ادراك أسباب التخلف والإنحطاط والإدمان على التراجع إلتماساً للسلامة والخلاص الفردي على حساب الكرامة والشرف القومي .

ثمة عجز عن الإنتقال من الكلامولوجيا الى الايديولوجيا ، ومن الايدولوجيا الى الفعل المادي والتحقيق العياني والإنجاز الحضاري.

ثمة مخادعة للنفس وللغير بفهم الدين على انه مجموعة شعائر وطقوس ، وممانعة مزمنة لفهمه كمجموعة قيم ومناقب . الدين في حياتنا ليس إلتزاما اخلاقياً بل هو اقرب ما يكون إلى درعٍ واقية تحمينا من سهام الآخر ، وسيف مسلول لنيل المراتب والمصالح والأموال والمنافع .

للأصالة عندنا معنى وحيد هو الإيغال في ممارسة الطاعة ، الطاعة للسلطان والطاعة للنص الذي جرى تأويله لمصلحة السلطان . في المقابل ، أصبح للحرية مدلول رامز : التمرد على التأويل السلطاني للنص ، بمعنى التمرد على جمود التقليد وجور السلطان ، والإنطلاق إلى إكتناه الحداثة .

أخفقنا في إكتناه الحداثة مثلما أخفقنا في طلب الحرية . السبب ؟ تلازم مزمن بين الحداثة والعدو الخارجي . فقد شقّ علينا ان نطلب الدواء ممن نعتبره مصدراً للداء .

لعل إجتماعنا السياسي لم يرتقِ بعد إلى مستوى أمة . نحن أمة قيد التكوين . غير ان ذلك التعدد السائد لم يمنع التوحّد الفاعل لو توافرت لدى الحاكم المستنير ، أو الحكام المستنيرين ، إرادة التوحيد . هذا كان عليه الأمر في عصور خلافة الراشدين وخلافة الأمويين ، وبعض عهود خلافة العباسيين . شعوب أخرى عرفت ان تتوحد كما توحدنا نحن في الماضي : شعوب أمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر ، وشعوب أوروبا في القرن العشرين .

لم يدرك حكامنا بعدُ ان شكلاً من أشكال الوحدة والاتحاد مطلوب لحماية الكيانات القطرية الهشة . كمْ سيندمون عندما يفيقون ، ذات يوم ، على واقع خطير مفاده ان لا حياة ولا بقاء في عالمنا المعاصر إلاّ للتكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى . هذا هو النمط السائد الذي سيبتلع تدريجا الكيانات الصغرى العائشة على ضفاف الكيانات الكبرى .

الثروة لا تحميها إلاّ القوة . قوة المال ليست بديلاً من القوة السياسية والعسكرية . وهذه لا سبيل إلى إستعارتها من دولة كبرى لا يهمها إلاّ مصالحها . القوة القادرة والحامية يجب ان تكون ذاتية . من دونها تبقى ثـروتنا النفطية مطمعا للغير ومنهبة للطامع المقتدر الذي يُحسن التخدير والسطو معا : تخديرنا بمعسول الكلام ، وسرقتنا بمختلف أساليب الحيلة والمناورة .

في حمأة هذا الواقع المرير تغدو المقاومة فعل حياة . أنت تقاوم ، إذاً أنت موجود . المقاومة فعل تغيّر . أنت تقاوم ، إذاً أنت تتغير ذاتيا بقصد ان تصبح اكثر حرية وبالتالي أكثر إقتداراً .

ما تفعله المقاومة اللبنانية ، وقبلها المقاومة الفلسطينية ، وعلى دربها المقاومة العراقية ، هو التغيّر والترقّي من اجل مواجهة قوى الإستبداد والإستغلال والإستكبار والإستتباع . انها فعل تحرير في الحاضر من اجل البناء بصيغة المستقبل .

من ثوابت المقاومة ثلاثة لا تقبل المساومة : أن تقاوم بإستمرار بلا كلل . ان تكون فيما تقاوم قدوة للغير وأسوة ، ما يجعل المقاومة فعل تحريض لمزيد من المقاومة . أن تقاوم على نحوٍ يوسّع دائرة الاشتباك مع الأعداء لمشاغلتهم على أوسع جبهة ممكنة ، لعلها العالم كله ، براً وبحراً وجواً .. بذلـك تتعاظم قوة المقاومة والمقاومين وتتشتت قوى الأعداء المختلفين ..

في كل ما تفعله المقاومة او لا تفعله ، يبقى الصدق رائدها ومنهجها . ذلك انها في واقعها ومرتجاها حرب على النفاق المزمن في مجتمعاتنا . هل خَطَر على بال واحدنا ان يحصـي عدد كلمات " النفاق " و " المنافقين " و " المنافقات " في سور قرآننا الكريم ؟

الصدق مع النفس والصدق مع الآخرين . تلك هي طبيعة المقاومة، وذلك هو سرّها ونهجها.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية