شهد العدوان الثنائي الأخير على الأراضي الفلسطينية ولبنان ظاهرة ، قد لا تكون جديدة في بعض مظاهرها وحجمها . الا انها هذه المرة اصبحت تحتل مكانة الصدارة ، وليس لها الا عنوان واحد هو حرب البنى التحتية . وهذا ما يحدث على ارض الواقع في كل من فلسطين ولبنان. والحديث عن البنى التحتية يشمل مصادر المياه والطاقة والمواصلات والاتصالات والمباني والمنشآت العامة والخاصة بكافة اشكالها واغراضها . وبلغة تفصيلية فهي محطات ضخ المياه وتوليد الكهرباء ، وخزانات الوقود ومحطات توزيعه ، وطرق المواصلات ، والجسور والموانىء والمطارات ، اضافة الى كافة اشكال وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية . وتدخل المرافق الصحية والتجارية والتربوي والخدمية في نطاقها . وبمعنى اشمل فان البنى التحتية هي حصيلة التطور المادي الانساني ، والتي بدونها يعود الانسان الى عصور البدائيـة الأولى .
في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، والتي تشكل اهم بقعة للعدوان والمقاومة ، فقد خبر الفلسطينيون على مدى تجاربهم النضالية مسلسلا لا ينتهي من الحرب على بناهم التحتية ، تمثل في تجريف اراضيهم ، واقتلاع اشجارهم وحرق حقولهم ، وتدمير بيوتهم وورشهم ومصانعهم ومؤسساتهم الأخرى والعبث المدمر في اثاثها . ولم تسلم طرق مواصلاتهم وكافة اشكال وسائلها هي الاخرى . ولقد شكلت الاعتداءات المتكررة على خزانات المياه الارضية ، وتلك المتواجدة على اسطح المنازل ، وصحون التقاط البث الفضائي مسلسلا شبه يومي تفوح منها رائحة الرغبة في الإيذاء والإنتقام والعقاب الجماعي العشوائي .
ان الحرب على البنى التحتية ليست بجديدة ، وانما جديدها هو هذا التكثيف غير المسبوق ، والذي على ما يبدو اصبحت معه هدفا ، بالإضافة الى كونها غاية ، واتساعها لتشمل كل ما يمت الى هذه البنى بصلة ، ولتتزامن في آن واحد في كل من فلسطين ولبنان .
في اعتقادنا أن ثمة اهدافا كثيرة تريد اسرائيل ان تستثمرها من هذه الحرب التي تتمثل بادىء ذي بدء في اخراج الإنسان الفلسطيني واللبناني من اطار الحياة الانسانية القائمة على مقومات الحضارة الاساسية ، وبمعنى ادق القذف به الى جحيم حياة تفتقر الى ابسط بسائط الحياة الانسانية . وياتي الهدف الثاني استكمالا لسابقه ، ويتمثل في تكريس المعاناة والشدة والشقاء والبؤس والتخلف ، وتدمير الروح المعنوية ، وتوليد مشاعر اليأس والعجز والنقص والدونية .
واما الهدف الثالث ، فهو يتمثل في حرف الانسان الفلسطيني واللبناني عن مسار التفكير والعمل في مجال مقاومة أي شكل من اشكال العدوان يفرض عليه ، وقبوله راضخا مذعنا لاية تسويات حتى لو كانت في غير صالحه ، وتتناقض مع امانيه ورغباته في الحرية والسيادة والاستقلال .
وثمة هدف رابع يمكن قراءته من العمليات التدميرية الاخيرة التي شهدتها ، مثالا لاحصرا مدينة نابلس الفلسطينية المحتلة . لقد اقدمت هذه الآلة الحربية على تدمير مؤسسات وزارة الداخلية تدميرا كليا على كل ما تحتويه من اجهزة حوسبة ، وملفات ووثائق وعاملات وهويات وجوازات سفر وشهادات ميلاد تخص المواطنين ، بقصد خلق حالة ارباك وفوضى ادارية .
وكثيرة هي المرات المشابهة في مؤسسات فلسطينية اخرى ، لا يمكن قراءتها الا انها تندرج في اطار العقوبات الجماعية ، والتخريب المتعمد ، الى جانب كونها وسيلة خطيرة لاستهداف الوثائق التمليك الخاصة بالمواطنين ، والمستندات والاوراق الثبوتية التي تخص الملكية والانتماء والحقوق الاخرى . وهذا بحد ذاته هدف يخدم من منظور اسرائيلي حرب تصفية القضية الفلسطينية بكل ابعادها .
وتشكل اثارة الانقسامات والشقاقات والنزاعات والصراعات الداخلية بين الاطراف المختلفة الهدف الخامس الذي يمكن اعتباره من اهم الاهداف واخطرها . وهذا من منظور اسرائيلي يخلخل الجبهات الداخلية ، ويجعلها هشة قابلة للانكسار في كل من فلسطين ، ولبنان تحديدا ، كون الاخير بالذات محكوما لتركيبة ديموغرافية طائفية قائمة على توازن دقيق للغاية وحساس .
في حربها على البنى التحتية ، فان لاسرائيل اهدافا كثيرة ، منها العامة المشتركة ، ومنها تلك التي تخص فلسطين ولبنان كلا على حدة . ففي فلسطين ، وتحديدا هذه الايام ، معاقبة الفلسطينيين على خيارهم الديموقراطي . وفي لبنان تشويه حزب الله في اعيـن اللبنانيين ، وتحميله مسؤولية مايشهده لبنان من دمار وتخريب طال الحجر والشجر والبشر ، بغية عزله وتصفيته تمهيدا لاخراجه من الساحة اللبنانية السياسية والنضالية . الا ان هناك هدفا يتمثل في شعور اسرائيل ان لبنان دولة منافسة خطيرة لها على الصعد السياحية والتجارية والاستثمارية .
اجل كثيرة هي الاهداف التي من اجلها تشن اسرائيل عدوانها الوحشي على فلسطين ولبنان . واذا كانت الاهداف معروفة جيدا للفلسطينيين ، وهي تخص ثوابت القضية الفلسطينيـة ، وفي جعبة اسرائيل الكثير من الوسائل التدميرية قد خبرها الفلسطينيون . الا ان لبنان ، وعلاوة على ما ذكر ، فقد ثبت ان اسرائيل تخوض هذه الحرب التدميرية بامر من اميركا ، او بمعنى آخر بالنيابة عنها ، بغية تهيئة المنطقة لميلاد شرق اوسط جديد خانع وخاضع ومستسلم ، معترف باسرائيل ومطبع معها ، تطبيقا للقرار 1559 الصادر عن مجلس الامن تلبية للرغبة الاميركية . وهذا القرار لا يستثني الاراضي الفلسطينية ايضا .
الا ان السؤال الاهم وهو في غالبيته يخص التدمير في الأراضي الفلسطينية اكثر من غيرها : ما هي قراءة الآمم المتحدة، والدول المانحة لما يحصل ؟ . ان كثيرا من المنشآت والمرافق التي دمرتها الآلة الحربية الاسرائيلية تابعة للامم المتحدة ، وتحديدا وكالة غوث اللاجئين " الأونـروا " . ان شدة هذا التدمير واتساع رقعته لا يتناسبان باي شكل من الاشكال مع احتجاجات الامم المتحدة التي يلتزم امينها العام حالة الصمت المريب ازاء كل ما يحدث ، او تلك التصريحات الباهتة الخافتة المنخفضة السقف التي نادرا ما تصدر عنه .
ولا تختلف الحال مع الاتحاد الاوروبي واليابان ، وهما المانحان الاكبران ، فانهما واقفان صامتين يتفرجان دون ادنى حراك على تدمير ما قدمته ايديهما للفلسطينيين من اموال دافعي الضرائب الاوروبيين واليابانيين . وفي هذا الصدد فان الفلسطينيين يستغربون من هذا السلوك ، ويعتبرونه اما انه تواطؤ ، او انه في حقيقته يأتي في سياق الضغوطات الاميركية والاسرائيلية عليهم حتى ظلا صامتين . وهما وفي كلتا الحالتين عذران اقبح من ذنب ، ويدلان على ان الاتحاد الاوروبي واليابان ليس لهما من حرية اتخاذ القرار الا القليل .
هذي هي حال العدوان الحالي وما سبقه في فلسطين ولبنان . لقد حل الدمارالهائل فيهما . انه زلزال بكل معنى الكلمة ، الا ان هذا الزلزال من صنع الآلة الحربية الاسرائيلية التي تستخدم تكنولوجيا الموت والدمار والهلاك الاميركية . لقد انقضت هذه الآلة على البنى التحتية في فلسطين ولبنان . انها حرب من نوع جديد في القرن الحادي والعشرين . انها حرب اعادة الانسان الى عصور البدائية .
انها حرب تجريد هذا الانسان من الحضارة والرقي ، ونفيه الى عالم المعانـاة والمآساة . وكلمة اخيرة ، فقد تكون هذه الآلة قد استطاعت ان تدمر الجانب المادي من الحضارة ، الا انها وبكل قواها لم تستطع ، ولن تستطيع ان تدمر الجوانب غير المادية منها وتحديدا الثقافية ، وفي مقدمتها الروح المعنوية التي ستخوض معركة البناء من جديد .