حزمت القيادة السياسية الإسرائيلية أمرها وقررت ، بالتواطؤ مع إدارة جورج بوش ، رفض وقف النار إلاّ بعد نشر قوة دولية رادعة في جنوب لبنان . قرار إسرائيل هذا يتطلب إحتلال قواتها البرية على إمتداد الحدود بينها وبين لبنان شريطاً بعرض ستة كيلومترات . وقد تستوجب المتطلبات السياسية واللوجستية توسيعها لتصل الى تخوم نهر الليطاني . ذلك كله من اجل تمكين القوة الدولية المزمع إنشاؤها من تسلّم الشريط المحتل والمبادرة ، بالتعاون مع الجيش اللبناني إفتراضاً ، الى تجريد المقاومة الإسلامية ( حزب الله ) من السلاح في إطار بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل ترابها الوطني .
بصرف النظر عن مضمون قرار مجلس الأمن المزمع إصداره ومدى استعداد حكومة لبنان للموافقة عليه والتعاون في تنفيذه ، فإن المخطط الإسرائيلي المعلن ينطوي على جملة عقبات لا تخدم مصلحة الكيان الصهيوني ، أبرزها ثلاث :
أولاها ان الهجوم البري مكلف للغاية ، وذلك قياساً على الهجمات اليائسة التي شنّها لواء غولاني وسرايا المظليين وكتائب المدرعات طيلة الأيام العشرين الماضية وفشلت فشلا ذريعاً في إختراق المواقع المتحركة لمجاهدي المقاومة .
ثانيتها ان إحتلال شريطٍ علـى إمتداد الحدود بعرض ستة كيلومترات ، ناهيك بمحاولة الوصول إلى مصب نهر الليطاني على مسافة 30 كيلومتراً من الحدود ، يتطلبان وقتاً طويلا يتجاوز مهلة الأسبوع التي حددتها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس للإتفاق على قرار وقف إطلاق النار . في هذه الحال ، فإن استمرار إسرائيل في القتال سيكون موضع سخط عالمي واسع قد لا تجد إدارة بوش مصلحة لها في تغطيته .
ثالثتها ان وصول القوات الإسرائيلية الى تخوم نهر الليطاني لا يخلّصها من مشكلة تواجد مجاهدي المقاومة في الشريط المحتل وقدرتها على مواصلة القتال وفق أساليب حرب العصابات ، كما لا يلغي قدرة عناصر مجاهدي المقاومة المتواجدين شمالي نهر الليطاني على إطلاق الصواريخ ذات المدى المتوسط والبعيد على إسرائيل . بل هو لا ينهي ظاهرة حـزب الله ووجوده الشعبي ونفوذه السياسي في بقية المناطق اللبنانية ، الأمر الذي يحرم إسرائيل من تحقيق اهم أغراضها السياسية والاستراتيجية من وراء حربها على لبنان .
هذه الوقائع تطرح في الجانبين الإسرائيلي واللبناني ( كما العربي والإسلامي ) سؤالا حول مدى إمكانية توسيع دائرة الاشتباك لكلٍ من الجانبين. ذلك أن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرةً الى تجريب خيار عسكري آخر اذا ما وجدت نفسها عاجزة عن إحتلال الشريط اللازم في جنوب لبنان لجعل قرار إنشاء القوة الدولية قابلاً للتنفيذ . فما هو الخيار الذي يمكن ان تعتمده إسرائيل ؟ هل تلجأ الى مزيد من عمليات التدمير الشامل للبشر والحجر والشجر أملاً في دفع حكومة لبنان الى الضغط على حزب الله لوقف القتال والقبول بشروط تل أبيب وواشنطن ؟ ام تراها تلجأ الى تطبيق قاعدة ذهبية في مذهبها العسكري مفادها ان ما لا يؤخذ بالعنف يتم أخذه بإستعمال قدر اكبر من العنف ؟ ام هل تلجأ الى خطة مغايرة جوهرها شن هجوم بري صاعق بتغطية جوية كثيفة على محور الخيام – مرجعيون بقصد الوصول ، عبر البقاع الغربي ، الى طريق بيروت – دمشق وربما الى الشمال منها بقصد قطع الإمداد اللوجستي عن حزب الله ؟
إن إعتماد أيٍّ من هذه الخيارات يطرح على المقاومة وحزبها وداعميها أسئلة مفتاحية : هل يقتضي مواجهة توسيع دائرة الاشتباك من طرف إسرائيل بتوسيع دائرة الاشتباك السياسي والعسكري ضدها ، لبنانياً وعربياً وإسلاميا ؟ هل تضاعف المقاومة من إطلاق صواريخها في إطار مرحلة " ما بعد حيفا " ، ام تراها تتجاوزها إلى مرحلة " ما بعد بعد حيفا " ، وما هي تداعيات هذا القرار ؟ هل تجد سورية نفسها مضطرة ، إزاء دخول القوات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان وربما إقترابها من حدودها ، الى تحريك جبهة الجولان وتفعيلها تدريجا لتخفيف الضغط عن جبهة لبنان التي تشمل في الواقع البلد كله ؟ هل تجد إيران من مصلحتها إعادة النظر بسياستها الراهنة في العراق ، فتدفع أنصارها في الوسط الشيعي الى التعاون مع القوى الإسلامية السنّية وقوى المقاومة القومية والإسلامية لمقاتلة قوات الاحتلال الأمريكي على مستوى العراق كله ما يؤدي الى إستنزافها ويدفع واشنطن الى التخفيف من ضغوط إسرائيل على جبهتي لبنان وسورية ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتوقف على جملة عوامل إسرائيلية وأمريكية وعربية وإسلامية .
أول العوامل قدرةُ إسرائيل على مواصلة الحرب . اذا كانت مدتها القصوى 15-10 يوما من الآن فإن ذلك يقع في إطار قدرة المقاومة اللبنانية على الإحتمال . اما إذا أظهرت إسرائيل تصميماً وقدرةً اكبر على مواصلة القتال فإن معنى ذلك ان أمريكا هي وراء قرارها وانها توفّر لها الدعم السياسي والمالي واللوجستي اللازم لمدة طويلة .
ثاني العوامل مخططُ الولايات المتحدة الحقيقي في هذه المرحلة : هل يهدف إلى دعم إسرائيل وإخراجها من الورطة التي زجّتها فيها على نحوٍ يؤمن لها الحدّ الأدنى من الأمن والإستقرار ام انه يتجاوز متطلبات إسرائيل الخاصة ليشمل أمن منطقة النفط برمتها من سواحل البحر الأحمر غرباً إلى سواحل بحر قزوين شرقاً ؟
ثالث العوامل مدى استعداد سورية لتطوير صمودها الى مواجهة فاعلة لإسرائيل ، خصوصا في حال قيام هذه الأخيرة بالاقتراب من حدودها الغربية مع لبنان أو قطعها طريق بيروت – دمشق . غير ان قرار سورية محكوم بعاملين ، عربي وإيراني . فالدول العربية عاجزة عن عقد قمة طارئة لمواجهة التحديات والأخطار الماثلة . اما إيران فإنها ، رغم دعمها السياسي واللوجستي للمقاومة الإسلامية في لبنان وإعلان تصميمها على التدخل دفاعاً عن سورية فيما إذا هاجمتها إسرائيل ، فإن إنشغالها بملفها النووي وصراعها السياسي مع أمريكا لا يعطيها ، ظاهراً على الأقل ، هامشاً من حرية الحركة . غني عن البيان ، ان قرار سورية في شأن توسيع دائرة الاشتباك يتوقف ، في التحليل الأخير ، على مدى فعالية العاملين العربي والإيراني في المواجهة المفروضة عليها .
من الناحية النظرية ، تبدو المرحلة الراهنة مؤاتية للعرب ، كما لإيران ، لتوسيع دائرة الإشتباك مع إسرائيل خصوصا والولايات المتحدة عموما . ذلك ان إسرائيل لم تستطيع ان تخرج بعد من صدمة إخفاقها العسكري ، طيلة الأيام العشرين الماضية ، في إلحاق الهزيمة بالمقاومة الإسلامية ، بل ان هذه الأخيرة ألحقت بها الهزيمة فعلا بنجاحها في صدّ هجماتها البرية وتكبيدها تكلفة عالية ، كما بنقل الحرب إلى عمقها بصواريخ متعددة المدى شكّلت نوعاً من المفاجأة الإستراتيجية الكاملة . كذلك تبدو إيران في وضع يمكنها من إستنزاف القوات الأمريكية في العراق مع تصاعد المقاومة القومية والإسلامية من جهة وتعثّر إدارة بوش في إيجاد مخرج لها من المستنقع العراقي من جهة أخرى . غير ان إيران تبدو متعقلة بل شديدة التعقل والتروي في تصعيد المواجهة ضد أمريكا .. لعلها تنتظر مزيداً من التعثّر الأمريكي على جبهات لبنان وسورية والعراق ، ومزيداً من التناقض بين أمريكا وأوروبا وروسيا إزاء ملفها النووي ، قبل ان تقرر تفعيل سياسة المواجهة المتطورة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل .
حيـال هذا المشهد السياسي الإقليمي الملتبس والمترع بإحتمالات شتى ، لا يبقى أمام المقاومة اللبنانية إلا ممارسة المزيد من الجهاد والإستبسال ، كما لا يبقى اما القوى الحية في الأمة الاّ ممارسة المزيد من الضغوط الشعبية على الأنظمة المتواطئة والمتخاذلة لدفعها إلى فك إرتباطها بأمريكا ووقف تخاذلها أمام إسرائيل .