كثر الحديث في هذه الايام عن الدولة الفلسطينية ، وليس في الامر ما هو جديد ، فلطالما احتل هذا الموضوع صدارة الأخبار ، ثم انه شيئا فشيئا يخبو ، حتى يكاد ينسى ولا يعود له ذكر . ذلك أن موضوع الدولة لا يشكل اهتماما حقيقيا لدى الأطراف التي يفترض بها ان تعمل بجد واجتهاد ومصداقية لتحقيقها ، عساها بذلك تمحو بعضا من مساحة الظلم التاريخي الذي حاق بالشعب الفلسطيني جراء التآمر عليه واستلاب وطنه وطرده منه.

 فلسطينيا ، وحين الحديث عن الدولة الفلسطينية ، لا بد من العودة الى المربع الأول من بواكير القضية الفلسطينية . فحينما احتلت بريطانيا في العام  1918 فلسطين التاريخية ، كان هناك شعب واحد يقطنها هو الشعب الفلسطيني الضاربة جذوره في اعماق تاريخها وترابها . وعلى مدى ثلاثين عاما من حكمها في اطار صك الانتداب البريطاني ، عاش هذا الشعب على أرضه ولم يكن لها الا اسم واحد ووحيد هو فلسطين .


 وحينما أعلنت بريطانيا انها ستنهي انتدابها على فلسطين ، وحددت تاريخا لجلاء قواتها هو الخامس عشر من أيار 1948 ، كان من المفروض ان تمنح الشعب الفلسطيني الاستقلال ، وحق اقامة دولته الفلسطينية عليها ، وأن تعترف له بحق وراثة المؤسسات العامة التي أقامتها، كونه هو الشعب الذي وجدته عليها وحكمته خلال تلك المدة . الا أن بريطانيا لم تفعل ذلك ، وقامت بتسليم البلاد للمهاجرين اليهود القادمين من اوروبا الى فلسطين ليقيموا عليها دولة اخرى هي الدولة العبرية التي اعلنت بالتزامن مع جلاء القوات البريطانية في الخامس عشر من ايار 1948.

لقد كان هذا التاريخ هو الموعد المفترض لبداية التحرر الفلسطيني على أرضه التاريخية ، وهو تحرر يرافقه في العادة قيام دولة . وهذا ما حصل في كل من سوريا ولبنان يوم انتهى الانتداب الفرنسي عليهما ، وكذلك الحال مع الاردن والعراق اللتين كانتا خاضعتين للحكم البريطاني . الا أن الشعب الفلسطيني حلت به وبأرضه نكبة الاقتلاع من وطنه فلسطين الى منافي الشتات حاملا معه من جملة ما حمل في رحال تهجيره ، وفي مخزون ذاكرته الوطنية حلم العودة والدولة الذي يعني تصحيح مسار تاريخي ساهمت قوى عظمى في اعوجاجه ، واخراجه عن مداره الطبيعي.


 الا أن هذا الحلم ظل حلما في ليل فلسطيني طال مداه ، واتسعت مساحة شجونه وأشجانه وأبعاد تحدياته . وبرغم هذا كله لم تتمكن كل العواصف والأعاصير أن تقتلعه من الذاكرة الوطنية التي أصبحت موروثا للأجيال الفلسطينية المتعاقبة التي عاشت قهر المعاناة وعذابات الحرمان في منافي الشتات والاغتراب ، وعلى هوامش ما تبقى من الوطن .
ومن هنا كانت الدولة الفلسطينية مقرونة بالحقوق التي سلبت من الشعب الفلسطيني واولاها الارض التاريخية التي أقام عليها منذ مئات السنين . وهي – وان كانت لا تزال حلما - دولة حقيقية غير منقوصة ومستوفية لكل الأسس التي تقوم عليها الدول الاخرى ، حتى تضمن لها البقاء وقدرا من احترام ابنائها لها الى جانب احترام الآخرين ، ولكي تكون قادرة على استيعاب كل المتغيرات الديموغرافية والاقتصادية وكافة اشكال التحديات الاخرى.


 في العام 1964 ، قفزت فكرة الدولة من مجرد حلم في الذاكرة الفلسطينية الى مرحلة جديدة ، فأصبحت هدفا من أهداف منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست في هذا العام . وبطبيعة الحال فان الدولة أية دولة لا تكون الا بعد تحرير الأرض والانسان ، وهما عمادها .


 وهي من هذا المنطلق اطار سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي للانسان الفلسطيني سواء كان مقيما على أرض الوطن ، أو أنه كان في الشتات القسري . اذ ليس من المنطق والعدل أن ينقسم الفلسطينيون الى فئتين ، فئة تحظى بوطن ودولة ، وفئة وهي الغالبية العظمى لا تحظى بهما ، وتظل تعيش غريبة على هوامش دول وشعوب اخرى وعالة عليها تحمل في جوارحها غصة الحرمان ، وتصلى جحيم النفي والشتات .
 لم يتنازل الفلسطينيون مرة واحدة عن هدف الدولة على أرض الوطن وان قبلوا بمبدأ تقاسم الارض الفلسطينية . الا أن اسرائيل ومعها الولايات المتحدة الاميركية كانت على الدوام ترفضان الاعتراف لا بالشعب الفلسطيني ، ولا بحق العودة الى أرضه ، ول حتى باحتلال هذه الأرض ، ناهيك عن عدم الاعتراف بحقه في اقامة دولته السيادية عليها . واسرائيل تنطلق من أن هذه الارض هي  " أرض اسرائيل " وأن من يقيم عليها من غير اليهود أي الفلسطينيون هم " مقيمون أو سكان محليون " لا يحملون صفة المواطنة ، وهناك المتطرفون الذين يسعون الى ترحيلهم من ما تبقى من وطنهم .
 صحيح أن الرئيس الاميركي " جورج بوش الابن " ولحاجة في نفس الادارة الاميركية قد أعلن في اعقاب احداث الحادي عشر من ايلول 2001 عن "رؤيا " بشأن دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل . الا أن هذه الدولة ، وان كانت ما زالت حتى اليوم في رحم الغيب  تنطلق من منظور يختلف في شكله ومضمونه عن المنظور الفلسطيني لها .
 فالدولة الفلسطينية في المنظور الاميركي هي " ميني دولة " أو أنها دويلة تعيش على هامش دولة " اسرائيل اليهودية " . وبلغة المحتوى فهي اختزال من الدرجة الثالثة للدولة الفلسطينية ، وتقزيم لكل الاستحقاقات المترتبة عليها ، وهي في النهاية الحل النهائي لهذه القضية . وبكلمات من اللغة الجيوسياسية ، فهي بديل مسخ يفتقر الى هوية انتمائية سيادية ، ولا تحظى بمجال رحب متواصل جغرافيا من جميع جهاتها ، كونها مزروعة وسط غابات استيطانية تشرف عليها من عل ، وتتحكم في ممراتها واتصالاتها ومواصلاتها ، وتطوق كل تجمعاتها السكانية ، اضافة الى كونها مولودة خارج رحم القضية.


 أما الدولة الفلسطينية في المنظور الفلسطيني فهي وليدة شرعية ومشروعة للقضية الفلسطينية ، لا يشوبها أي تشويه في شكلها أو مضمونها .  وهي بكل بساطة لا يمكن أن تتعايش مع احتلال ولا استيطان له نصيب الأسد في ترابها وهوائها ومائها وباقي مقدراتها .
 وهذه الدولة لها حدودها ومعابرها وعاصمتها وهي القدس التي تحتضن أقدس المقدسات الاسلامية والتي كان الشعب الفلسطيني أمينا عليها طوال العصور.
 وهي دولة ذات تواصل جغرافي في كل الجهات وليس عبر ممرات ودهاليز أو جسور . انها دولة مستقلة ذات سيادة معترف بها من قبل جيرانها أيا كانوا ، اضافة الى اعتراف الشرعية الدولية ممثلة بالامم المتحدة.
 الا أن الدولة الفلسطينية لها خصوصية اخرى تخص منظومة استحقاقات افرزتها نكبة الشعب الفلسطيني ومعاناته ممثلة بقضية اللاجئين الذين ما زالوا ينتظرون عودتهم الى اوطانهم وديارهم ، والذين ما زالوا يحتفظون " بكواشين " شرعية قانونية لممتلكاتهم ، ومفاتيح دورهم وبيوتهم . ان هذه الدولة تعني انهاء مسلسل الظلم التاريخي الذي حاق بالفلسطينيين ، والذي أفقدهم مساحة من انسانيتهم جيلا بعد جيل . وفي ذات السياق فثمة عودة اخرى الى الوطن والأهل والديار تتمثل بآلاف الأسرى القابعين خلف قضبان معتقلات الاحتلال.
ان الدولة الفلسطينية ليست مجرد اطار ينتظم جزءا من الشعب الفلسطيني والسلام . انها الخلاص من الاحتلال وحكم الآخرين ، انها صنع القرار الوطني ، انها الأمن والأمان والحماية ، انها الحق المشروع في ممارسة اسلوب الحياة الفلسطينية القائمة على توازن بين الموروث والمعاصرة.

والدولة الفلسطينية حق أقرته الشرعية الدولة منذ عقود . وهي والحال هذه ليست منة من أحد ، ولا كرما او جودا . وهي في ذات الوقت لا تحتمل التقسيط على دفعات ، او ان تكون ذات حدود مؤقتة تحت التجريب والمعاينة . ولكي يتكون هناك مصداقية في الحديث عنها ، يفترض أن يخرج هذا الحديث الى بوتقة التفعيل في اطار تعريف دقيق وواضح لها ، وضمن جدول زمني حقيقي لتطبيقها على أرض الواقع . ساعتئذ يمكن القول بان الدولة الفلسطينية قد أصبحت حقيقة ، وانتقلت من رحم الغيب السياسي لترى النور . وما عدا ذلك حرث في البحر ، وضحك على الذقون . والفلسطينيون من الذكاء بحيث يفرقون ما بين الغث والسمين ، والوهم والحقيقة.
 
وهذه الاهداف لا يمكن لها أن تترسخ دون لم الشتات وعودة أهل الدار الى الدار . ان الدولة الفلسطينية رد اعتبار وتعويض بسيط على ظلم تاريخي حاق بالفلسطينيين الذين بدون هذه الاهداف لا يكونون قادرين على السير في ركاب أية عملية سلمية ، أو أي سلام حقيقي سوف يتفيأ ظلاله كل من الشرق الأوسط والعالم.

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية