من اخطر التحديات التي واجهتها القضية الفلسطينية ، كان الاستيطان الذي استباح الأرض وصادرها وأقام عليها شتى اشكال المستوطنات . وعلى شرف هذه المستوطنات استبيحت اراض أخرى كاحتياطي استراتيجي بغية مشروعات توسعها مع الأيام . ولم يكتف المشروع الاستيطاني بهذا ، فعمد إلى مصادرة المزيد من الأراضي للطرق الالتفافية التي أوجدت لخدمة المستفيدين منه . إلا أن أخطر المشروعات الاستيطانية ، ولا فرق بينها في الخطورة ، كان مشروع الجدار العازل الذي شرعت الحكومات الاسرائيلية باقامته منذ سنوات . وحتى هذه الايام لم يتوقف العمل بهذا المشروع الذي افترس خيرة الاراضي ، وضمها الى المشروع الاستيطاني العام .
وعلاوة على ذلك قام بتدمير أراض أخرى وتجريفها ، وحد بذلك من مصادر رزق اصحابها الشرعيين ، وأطبق الخناق على العديد من القرى الفلسطينية ، وجعلها أشبه بالمعتقلات المحاصرة . وفي هذه الايام صادقت الحكومة الاسرائيلية على تحريك هذا الجدار إلى الشرق داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 بغية ادخال مستوطنتي " نيلي " و " نعله " ، الامر الذي سوف يوجد جيبين فلسطينيين يعيش فيهما عشرون ألف مواطن فلسطيني سوف يعزلون عن بقية الاراضي الفلسطينية .
استراتيجيا وأمنيا ، لقد قيل الشيء الكثير عن مدى " مصداقية وجدوى " هذا الجدار ، وأكثر هذا الذي قيل جاء على ألسنة غير فلسطينية ، بعضها محايد ، وأغلبها صديقة لاسرائيل وعلى أعلى المستويات الاستراتيجية . وملخص هذا القول أن الأسوار الأمنية في هذا الزمان ليس لها مكان ، وقد عفت عليها الأيام فأصبحت فعلا ماضيا ، ذلك أنها لم تعد قادرة أن تواجه تقنيات القتال الحديثة بأي شكل من الأشكال .
واسرائيل تعلم هذه الحقيقة الخاصة بالأسوار ، كونها كيانا يستخدم أحدث الوسائل القتالية العصرية ، وبرغم ذلك فهي ماضية في تشييد هذا الجدار الذي لا تتقاطع أسسه واحداثياته وبقية مواصفاته الأخرى مع الاستراتيجيات العسكرية الحديثة من ناحية ، ولا مع أي اسس سلام يمكن أن يقوم مع الشعب الفلسطيني – وهذا هو الأهم – ولا حتى مع منظور كثير من أصدقاء اسرائيل سواء في الاتحاد الاوروبي أو في الولايات المتحدة الاميركية التي بات هذا الجدار يسبب لها " نوعا من الازعاج " ، وتصفه بأنه " مشكلة " .
على الجانب الفلسطيني المواجه لهذا الجدار المقام على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية ، تعمل الجرافات الاسرائيلية على اجتثاث معالم الحياة الخضراء لتحيل ما تبقى من الأرض الى صحراء قاحلة مكشوفة تشكل مصيدة قاتلة على مرمى نار أبراج الحراسة لكل من يقترب منها من المزارعين الفلسطينيين . وبلغة اقتصادية انزال خسائر مادية باهظة بالمواطن الفلسطيني الذي يعتاش أساسا على الزراعة ، وهو المرهق أصلا من آثار الحصارات والاطواق والاغلاقات والاجتياحات المستمرة , اضافة – وهنا بيت القصيد – الى تقليص وتحجيم وتقزيم ما يمكن أن يبقى من الأرض لاقامة دولة فلسطينية عليها .
واضافة الى كل هذه الاهداف من تشييد هذا الجدار اللعين ، فثمة هدف خطير له يتقاطع مع تكريس الاستيطان الاسرائيلي القائم اغتصابا على الارض الفلسطينية . وهو يأتي ليثبت وجود المستوطنات الاسرائيلية ويجعل كثيرا منها داخله أو قريبة منه ، الأمر الذي يجعلها من منظور اسرائيلي خارج نطاق أية تسوية سلمية محتملة ، وبذا تحقق اسرائيل فرض سيطرتها على الارض التي دأبت سياساتها منذ أزمان علـى اغتصابها من اصحابها الشرعيين .
وهكذا فان أي كيان فلسطيني سيقوم جراء أية تسوية سياسية ما سيكون – والحال هذه - محكوما مسبقا بحدود تتمثل من كل الجهات بهذا الجدار وهذه المستوطنات التي تحتل قمم الجبال الفلسطينية وتشرف على الطرقات وشبكة المواصلات ، وتطوق التجمعات السكانية . وهي في الواقع ليست حدودا بقدر ما هي في الحقيقة منظومة حصارات تستهدف التحكم الجغرافي والديموغرافي والنموي والاقتصادي والاجتماعي والاتصالي للمواطنين الفلسطينيين.
ولا تنتهي أهداف هذا الجدار عند هذه الحدود . فثمة هدف خطير للغاية يكمن في تطويق الشعب الفلسطيني وحصره تحت رحمة ابراجه وبلوكاته الاسمنتية وحراساته الالكترونية . وليس هناك مبالغة في القول بان أفضل وصف للأراضي الفلسطينية داخله هو " معتقل كبير قائم على أساس فصل عنصري " . وباختصار فان هذا الجدار يشكل كارثة تحمل رياحها بذور معاناة ومأساة جديدة تضاف الى مآسي الشعب الفلسطيني المتلاحقة .
لدى الحديث عن هذا الجدار لا بد من التطرق الى موقف الولايات المتحدة التي نصبت نفسها راعية " للعملية السلمية " ازاءه . وعلى الارجح فان هذا الموقف مثله كمثل سابقاته من المواقف ازاء كل الممارسات الاسرائيلية كان ولا يزال يدور في محاور السكوت والرضى التام والتفهم المدافع عنها ، أو غض النظر والتجاهل ، أو محور الموقف المائع المتقلب الذي يحمل أكثر من مضمون . وهذا الأخير هو ما يمكن استقراؤه بوضوح من تصريحات ساسة الادارة الاميركية مؤخرا حول تفهمها للضرورات الأمنية لهذا الجدار ، وأحقية اسرائيل باقامته كونها دولة مستقلة .
وخلاصة القول ان هذا الجدار الذي تشيده اسرائيل تحت ذرائع التصدي لما تدعي انه ارهاب فلسطيني بهدف استجلاب الأمن للاسرائيليين ما هو الا جدار آخر في سلسلة جدران اقامها التعنت الاسرائيلي على طريق عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة منذ أن كانت هناك قضية .
وان كل التحركات باسم العملية السلمية وما يسمى خارطة الطريق ما هي الا توغل في المتاهات ، وهدر للوقت والجهد . فالسلام الحقيقي له مواصفات اخرى ونوايا لا تتوافر حاليا لدى الاسرائيليين والاميركيين . والفلسطينيون يعون اللعبة جيدا ، وهم من الذكاء والاصرار على حقوقهم كاملة بحيث يلعبونها جيدا حتى النهاية . ويظل السلام رهن القناعات الفلسطينية به ، وليس رهن الجدران والخرائط وكافة اشكال التسويات المفروضة علـى القضية .