يقول العلامة الشيخ الجليل محمد أحمد الراشد حفظه الله ورعاه في نهاية كتابه القيم المعنون (عودة الفجر): (( إن القضية العراقية معقدة جدا ، وفي لغتها دماء ، ولذلك لا يفهمها حق فهمها غير عراقي. ))
وهو بهذا القول يضع تأصيلا لقضية يعاني منها الدعاة في شتى أقطار العالم حيث ينبري من هم خارج ساحاتهم ينتقدون ويوجهون وأحيانا يتطاولون و يسيئون الظن بما يختاره أولئك الدعاة من سياسات و خطوات ومواقف . ولقد عانينا في الكويت أثناء الإحتلال العراقي مثل هذا الأمر حتى من بعض االكويتيين الذين كانوا خارج الوطن. وقد أحسن الدعاة في الكويت عند وضع رؤيتهم لواقع ومستقبل العراق اشتراط أن تكون متبنية رؤى الحزب الإسلامي العراقي.
و يدعو حفظه الله ورعاه إلى ضرورة (( فهم سلوكيات الدعوة الإسلامية في العراق في مرحلة الإحتلال الأمريكي أمام حشد من المتناقضات التي تعج بها الساحة، فواضح أن العراق يعيش حالة إنقسام مذهبي و قومي، وأن التيارات السياسية فيه عديدة ومتعادية بعنف أحيانا، وأن الطبيعة الثورية في السياسة العراقية جعلت لجوء الأطياف المتصارعة إلى استعمال السلاح و الاغتيال أمرا مألوفا، فوق ما هنالك م تأثيرات أقليمية من دول مجاورة تقوم نشاطات مخابراتها في الأرض العراقية مقام أحزاب وأطياف تزيد الوضع إشكالا وغموضا وصراعا.
فمثل هذه الحالة المتشابكة لا يفهمها غير العراقي فهما يستطيع أن ينافس فهم الداعية العراقي الذي يمارس في الساحة ويتعامل مع أشياء ومؤثرات لا تكتب ولا يصرح بها يجهلها من هو خارج العراق، ومن هنا فإن التقدير الصحيح للموقف يحتاج مقادير من تفويض الدعاة في أقطار الأمة الإسلامية لإخوانهم داخل العراق أن يختاروا ما يناسبهم وأن يحسنوا الظن بهم وبموازاتهم المصلحية وبتقديراتهم للضرورات التي تلجئهم في ظاهر الأمر إلى خلاف ما يرغب به كل داعية مسلم، ومثل هذا الحال من استغراب غير العراقي للاختيارات الدعوية العراقية يثير ألما في نفوس دعاة العراق الذين يكتون بنيران متعددة داخلية هي أشد حماوة من نيران المستعمر الأمريكي، بل أتاحت مواقع الإنترنت وسهولة الدخول إليها مجالا خصبا لكل ناشئ لم ينضج بعد أن يكيل التهم الجزاف _ وربما المسبة_ لدعاة العراق الذين ي ويحاولون الالتفاف الذكي على منغصات اجتماعية وسياسية تواجههم، وقد يزايد هؤلاء الشباب المستعجلون على قدماء الدعاة العراقيين ويتقدمون لهم بمواعظ تدعوهم إلى توبة وإلى رؤية بديهيات يتجاوزها الداعية منذ أول سنة من سنوات تربيته الدعوية.
وفي مثل بيئة نجد والحجاز والأحساء حيث تسود العقيدة السلفية النقية: يكون إستغراب السلوك الدعوي العراقي أكثر وأقوى، تبعا لظاهر النصوص التي يلجأ إليها التوجه السلفي، لكن لو علم هذا التوجه السلفي بطبيعة التوجه الدعوي العراقي لكان أقرب على حسن الظن و إلى التأول لدعاة العراق ، وذلك لأن التوجه الغالب في الطبيعة الدعوية العراقية هو التوجه السلفي أيضا وإن سميت المجموعة الدعوية الأكبر باسم آخر غير اسم السلف، مما هو امتداد للدعوة العالمية الواسعة ، فمنذ نشأة هذا التوجه الدعوي العراقي بعد الحرب العالمية الثانية كان سلفي الإعتقاد ، واتخذ له من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ثم ابن القيم منهجا تربويا واضحا. ))
ويواصل العلامة الشيخ القول: ((ولهذا فإن قادة الدعوة اليوم في العراق حين يتخذون مواقفهم السياسية يكون منهم استحضار للنصوص الشرعية ولاختيارات أئمة السلف القدماء يتوازى تماما مع استحضار جيل السلف الحاضر في نجد و الحجاز ن وما هو ببعيد عنه، والفرق ينحصر في أن العراق تحيطه ضرورات يكتوي بنارها ، وتقوم عنده موازنات يذهل عنها غير العراقي، فيفتي العراقي نفسه بشئ مغاير لرغبات من هو بعيد عن الساحة، فماذا نقول مثلا في جهاز الدولة الذي يعاد تأسيسه في زمن الإحتلال: أيليق بجمهرة الدعاة أن تقاطع الوظيفة الحكومية ليحتكرها المنافس فقط؟ وهل يليق بمثل هذا التعفف أن تترك القوات المسلحة من جيش وشرطة واستخبارات ليحتكرها المنافس أيضا؟
فالقول بالمفاصلة والتعالي على التعامل مع المحتل الأمريكي يجعل الطاقات الواسعة المتاحة عبر الوزارات والقوات المسلحة والجامعات موظفة توظيفا كاملا ضد التوجه الإسلامي النقي في العراق، ويجعل لإيران _ مثلا_ مكانة واسعة في الإنتفاع من هذا الصدود والعمل بحرية، ويتيح للأفكار المتطرفة أن تهزم أصحاب الفكر الإسلامي الصحيح، وفي هذه النتائج السلبية ما يحمل دعاة الإسلام على التحايل والرضا بأقل الشرين عند التعامل من أجل الإلتفاف على المصاعب، ويزداد ذلك وضوحا إذا علمنا أن الإدارة الأمريكية جاءت بدون تصور واضح عن طبيعة المجتمع العراقي وتناقضاته، ونرى فيها أكثر من مدرسة وأكثر من تأول، وهو ما يجعل هذه الإدارة تتخبط أول مجيئها عبر ظنها وجوب الإقتراب والتعاون مع خطوط ترتضيها إيران، ومن أجل كسب إيران أيضا وتحييدها والشعور بعدم الحاجة إلى الدخول في صراع معها إذا رضيت بهذه الخطة الأمريكية ، ولكن ما حدث وآل إليه الأمر بعد سنة من الاحتلال أودع قناعة أخرى لدى الأمريكان بأن هناك حقائق عراقية تدعو إلى ضرورات الموازنة وحفظ حقوق العراقيين جميعا . ))