يتفّق محبو الدكتور عبّاسي مدني وخصومه السياسيون أنّه شخصيّة لا تعرف التعب , و أنّه منذ آمن بفكرته و بمشروعه المستمّد أساسا من المشروع الباديسي والمستّمد والمستنبط بدوره من مفردات الحضارة العربية و الإسلامية التي صاغت تاريخ الجزائر منذ 15 قرنا وهو يناضل من أجلها , حيث ساهم في الثورة الجزائرية التي أفضت إلى طرد المستعمر الفرنسي من الجزائر وقد سجن خلالها , كما ساهم في بلورة معالم الحركة الإسلامية الجزائرية بعد الإستقلال عندما تحالف الشيوعيون والفرانكوفيليون و أداروا دفّة الحكم في الجزائر , وظلّ وبكل صراحة وفيّا لمبادئه حيث جعل من الجامعة والجامع منطلقين لبناء جيل إسلامي يؤمن بعروبة الجزائر وإسلامها – والمقصود بالعروبة هنا اللغة العربية في مقابل الفرنسة والتغريب لا العروبة بمفهومها الإيديولوجي والقومي كما في مفردات بعض التيارات الشوفينيّة -, و منذ إستقلال الجزائر سنة 1962 وهو يناضل في جبهات الفكر والثقافة حيث سمحت له ثقافته الغربية الواسعة لكونه درس في الجامعات البريطانية أن يخوض أعتى المعارك مع رجالات النظام و أعمدة التغريب سواء في دوائر القرار الجزائري أو دوائر الجامعات والمعاهد العليا و وسائل الإعلام , و كان في كل هذه المعارك يؤكّد على عروبة الجزائر و إسلاميتها , بل كان يتحدى الذين كانوا يريدون فصل الجزائر عن واقعها العربي والإسلامي و إهدائها ثانيا للغرب بعد أن قدم الجزائريون مليونين شهيدا في ظرف سبع سنوات 1954 – 1962 من أجل التأكيد على إسلامية الجزائر وعروبتها , هذا دون الحديث عن أربع ملايين شهيدا جزائريّا قضوا نحبهم عند بداية الحملة الفرنسية على الجزائر في تموز – يوليو 1830 .
و كانت الجزائر تعيش أوج الصراع الفكري في السبعينيات و الثمانينات وإلى يومنا هذا بين دعاة باديس ودعاة باريس , بين دعاة فولتير ودعاة إبن رشد , و في الوقت الذي كان فيه عباسي مدني يعبّر عن رأي الشارع المنسجم قلبا وقالبا مع الفكر الباديسي , كانت الأقلية الفرانكفونية قوية وفعّالة بسبب وجودها في دوائر القرار , وقد إعترف وزير الدفاع الجزائر خالد نزار في مذكراته أنّ الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا متيران إتصل بالرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد عشية فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلب المقاعد البرلمانية في الإنتخابات التشريعية التي جرت 26 كانون الأول – ديسمبر 1991 وطالبه بضرورة إلغاء هذه الإنتخابات وفورا وكذلك فعلت بعض الدول الغربية والعربية
كالمغرب .
وفي أول إمتحان ديموقراطي عسير بين مدني وخصومه و عندما أراد خصومه الإذعان إلى الشارع نزولا عند قوانين اللعبة الجديدة التي أقرّها الشاذلي بن جديد عقب ثورة الغضب الجزائرية في 05 تشرين الثاني – أكتوبر 2003 منح الشارع الجزائري أصواته لعباسي مدني والجبهة الإسلامية للإنقاذ وبالتالي إنتصر مشروع باديس على مشروع باريس في الجزائر وبدون عنف أو بنادق , بل تمّ ذلك في عرس ديموقراطي إغتالته السلطة الجزائرية وتحديدا المؤسسة العسكرية و إمتدادتها في المجتمع المدني المنعوت بالديموقراطي زورا وبهتانا. وعقب بروز النتائج التي أكدت فوز مشروع عباسي مدني ورفيقه علي بن حاج وبالتالي الشارع الإسلامي الوطني في الجزائر , خرج دعاة باريس من قماقمهم و أطلقوا النار على عباسي ورفاقه في ظرف حسّاس من تاريخ الجزائر , فأحمد غزالي رئيس الوزراء وأحد المحسوبين على ثقافة باريس والذي كان يخاطب الصحافة الجزائرية باللغة الفرنسية فقط قال بالحرف أنّ الشعب الجزائري غبيّ ولم يحسن الإختيار , وقبله قال سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة الديموقراطية البربري لعباسي مدني مباشرة في حصّة وجها لوجه : إذا فاز حزب عباسي مدني سأحمل السلاح على دولته !
و أوعزت دوائر الإستخبارات إلى واجهاتها في المجتمع المدني من سياسيين و إعلاميين وكتاب ونقابيين بإعلان الحرب على مدني ومشروعه , وعندها أقيل الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد وتوجهّت الدبابة إلى الجامع والجامعة على حدّ سواء لحصار مواقع عباس مدني -1- الذي كان قابعا في سجن البليدة العسكري حيث تمّ إعتقاله في أواخر شهر حزيران – يونيو 1991 .
و ظلّ عباسي مدني في نظر الكثير من صنّاع القرار أحد الممسكين بمفتاح الحلّ والربط في الجزائر وكان الرئيس الجزائري الأسبق اليامين زروال يبعث موفديه إليه لصياغة رؤيا تتيح الخروج بالجزائر من عنق الزجاجة , لكن كان هناك وعلى الدوام محسوبون على الخط الباريسي يضعون العصيّ في الدواليب , و كان كلما يلوح في الأفق أمل بقرب خروج الجزائر من أزمتها كانت الأوضاع تعود إلى درجة الصفر أو ما قبله !
وبعد إثني عشر سنة قضاها عباسي مدني في السجن خرج من سجنه ليجد جزائر غارقة في بحر من الدماء , الجهات الرسميّة تصرّح بمقتل مائتين ألف جزائريا والأرقام الواقعية مازالت طيّ الكتمان , و هاله أن يرى جزائر غير التي كان يحلم بها تقهقر داخلي وتراجع إقليمي و إنكسار دولي في كل تفاصيل الحياة الجزائريّة سياسيا وثقافيا و إقتصاديّا .
وقد خرج من السجن وهو أشدّ إيمانا بمبدأ المصالحة الوطنية الشاملة , والتي يعمل لأجلها بعيدا عن الجزائر في ماليزيا التي سافر إليها للعلاج , و الواقع أنّ عباسي مدني و كما أعرف عنه لا تهمّه صحته بقدر ما تهمه صحة الجزائر , وهو إختار ماليزيا لعلاج الجزائر لا قلبه المتعب من حصار الجنرالات الذين حولوا الجزائر إلى شركة تخصهم وتخص أولادهم أما الشعب الجزائري فإلى الجحيم .
ويضطلّع حاليا في ماليزيا بطبخ مشروع وطني شامل يفضي إلى إجراء مصالحة وطنية شاملة مع شخصيات في الداخل الجزائري قادرة على صناعة الفعل الإيجابي والمؤثّر , غير أنّه وقبل طرح هذا المشروع الذي لا يريد الكشف عنه الآن حتى لا يجهض خصوصا وأنّه يعلم أنّ المتربصين بالمصالحة في الجزائر وخارجها كثيرون لا يحصى عدهّم , يريد مبدئيّا أن يعيد الألق الإعلامي و السياسي لجبهة الإنقاذ الإسلامية من خلال عنوانه , وهذا ما يفسّر التصريحات والمواقف التي باتت تنقلها عنه وسائل الإعلام العربية والعالمية , و لا يمكن أن ينجح أي مشروع سياسي مالم يكن مردفا بقوة حضور في الإعلام المحلي والإقليمي والدولي .
ويبقى القول أن تجربة السجن التي مرّ بها عباسي مدني زادته صقلا كما صقلت نبي الله يوسف في سجن فرعون , و خرج من السجن بخطاب إسلامي أشد إنفتاحا على القوى السياسيّة الجزائرية بكل ألوان طيفها الإيديولوجي و الفكري والسياسي .
ويبقى القول أنّه في الوقت الذي يسعى فيه لبلورة مشروع مصالحة جدّي , فإنّ دعاة الإستئصال في الداخل الجزائري يعدون عدتهم , ليبقى الصراع محموما بين دعاة باريس ودعاة باديس , غير أنّ باديس جزائري الهوى والهوية فهو الأبقى والأكثر تجذرا في الأرض الجزائرية الممزوجة ببذور الحضارة العربية و الإسلامية !!