ثلاثون يوما منذ أن عقد لقاء أنابوليس في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2007 ، حتى كتابة سطور هذه المقالة . وقد كان من المفترض أن يكون هذا اللقاء راعيا وكافلا وضامنا أمينا لما أطلق عليه مفاوضات الحل الدائم ، وإقامة الدولة الفلسطينية الديموقراطية ، القابلة للحياة ، والمتعايشة سلميا مع الدولة الإسرائيلية .  إلا أن المفترض شيء ، وما يجري على أرض الواقع الفلسطيني شيء آخر بعيد جدا عنه بعد السماء عن الأرض . إن المقصود هنا كل ما يخص إصرار الحكومة الإسرائيلية الممنهج على المضي قدما وحثيثا في تنفيذ مخططاتها الإستيطانية في الأراضي الفلسطينية التي اغتصبتها غداة احتلالها لكامل التراب الفلسطيني .

في هذه الأيام الثلاثين ، وحتى ما قبلها ، كان من المفترض أن يجمد الإستيطان ولو جزئيا ، وحتى هذا التجميد لم يجد في الحكومة الإسرائيلية من هو معني بالقيام به لا كليا ،  ولا حتى جزئيا إكراما للعملية السلمية . ذلك أن السلام الحقيقي القائم على العدل ليس له مكانة في الأجندة السياسية الإسرائيلية .

وفي هذه الأيام الثلاثين ، وما دمنا بصدد الإستيطان ، فقد حذر تقرير جديد نشرته صحيفة " هآرتس " الإسرائيلية مؤخرا من أن الحكومة الإسرائيلية تتجاهل تعهداتها للرئيس الأميركي جورج بوش الإبن بشأن تجميد الإستيطان . وهذه الحكومة جادة بما لا يدع مجالا للشك في إضفاء صفة " مشروعية " لمواقع إستيطانية عشوائية ، فيما هي تواصل توسيع الإستيطان القائم في كل الإتجاهات الرأسية والأفقية .

إضافة إلى ما ذكرنا آنفا ، فقد كشفت أيضا جريدة " هآرتس " الإسرائيلية النقاب عن نية الحركات اليمينية الإسرائيلية اللابرلمانية إقامة ثلاثة مواقع إستيطانية جديدة ، والتحضير للعودة إلى خمسة مواقع إستيطانية تم إخلاؤها ظاهريا في وقت سابق .

وما زلنا في هذه الأيام الثلاثين المتخمة بالمشروعات الإستيطانية الإسرائيلية ، وآخرها لا أخيرها ، ما أعلنه وزير الإسكان الإسرائيلي عن وجود مخطط لبناء ما ينوف عن عشرة آلاف وحدة سكنية في الأراضي الفلسطينية التابعة لمدينة القدس العربية ، وتحديدا في منطقة قلنديا .

واستكمالا لهذه الهجمة الإستيطانية وفي نهاية هذه الأيام الثلاثين ، أعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها خصصت مبلغ خمسة وعشرين مليون دولار أميركي ، وطرحت العطاءات بغية بناء سبعمائة وخمسين وحدة سكنية بواقع خمسمائة وحدة في المستوطنة المقامة على جبل أبو غنيم " هار حوما " ، وومائتين  وخمسين في المستوطنة المقامة على أراضي الخان الأحمر " معاليه أدوميم " . وحبل الإستيطان على الجرار .

وهكذا ، ومنذ أن انتهى أنابوليس ، ولم تمض عليه إلا مدة هذه الثلاثين يوما ، هناك نمطية قائمة فيما يخص المشروعات الإستيطانية ، لا يمكن لأحد أن يقرأها أو يستقرأها إلا على أنها الخط الذي اعتمدته إسرائيل في سياستها الإستيطانية المستدامة ، ضاربة عرض الحائط بكل تعهداتها السابقة للإدارة الأميركية التي ، كما يبدو ، غير جادة في تفعيل هذه التعهدات . وهنا نذكر بوعد الرئيس الأميركي للجنرال شارون الذي كان في حينه رئيسا للحكومة الإسرائيلية ، ومفاده ضمان عدم العودة إلى حدود العام 1967 .

ويتمثل هذا الخط ، كما يقرأ من الخارطتين الجغرافية والديموغرافية للمشروعات الإستيطانية الإسرائيلية في استكمال مخطط تهويد القدس وتحديد مصيرها . ومن الناحية الأخرى تحديد مصير الحدود الإسرائيلية من خلال جدار الفصل الذي سيضم في نهاية الأمر الكتل الإستيطانية الست الكبرى المقامة على أراضي الضفة الفلسطينية .

 وهنا ولكي يكتمل المشهد الإستيطاني الإسرائيلي ، لا بد من الرجوع إلى أرشيف الإستيطان الإسرائيلي منذ العام 1967 ، وهو العام الذي احتلت به إسرائيل كامل التراب الفلسطيني . لقد بنت إسرائيل مائة وخمسا وثلاثين مستوطنة على خيرة الأراضي الفلسطينية التي اغتصبتها . إضافة إلى هذه المستوطنات المذكورة ، فقد بنت إسرائيل أربعا وثلاثين مستوطنة في منطقة القدس العربية وحدها . وهذا يؤكد نواياها التهويدية للمدينة المقدسة . ولا يقف الإستيطان الإسرائيلي عند هذه الأرقام ، فهناك مائة واثنتان من البؤر الإستيطانية العشوائية .

والسؤال الكبير المتعدد الجوانب الذي يطرح نفسه بإلحاح : أين هو الراعي الأميركي من هذه الإنتهاكات الفاضحة ؟ . ماذا تبقى للفلسطينيين ليفاوضوا عليه ؟ . وحين تخصم مساحات هذه المستوطنات ، ماذا يتبقى للدولة الفلسطينية الديموقراطية القابلة للحياة ، المتعايشة سلميا مع دولة إسرائيل ؟ . وعلى ماذا يتفاوض الفلسطينيون للحل الدائم ؟ .هل يعقل أن يكون هناك مسار مفاوضات حل دائم وسلام ، يقابله مسار استيطان وعدوان مستدامين ؟ .

إن الإستيطان من منظور فلسطيني يعني شرعنة استلاب الأرض التي هي مادة الوجود الفلسطيني الرئيسة . والفلسطينيون لا يتصورون سلاما دائما مع استلاب هذه الأراضي وهي ليست أية أراض ، وإنما هي منتقاة ومختارة بعناية تؤدي وظائف تخدم أهدافا احتلالية إستراتيجية بعيدة المدى ، تنطلق من تكريس مبدأ السيطرة والهيمنة على مقدرات الشعب الفلسطيني ، وإلغاء فصول قضيته العادلة من سجلات التاريخ .

وفي ذات السياق فإن الفلسطينيين لا يتصورون حلا دائما مشرفا وعادلا ، ودولة وعدهم بها رئيس الولايات المتحدة الأميركية جورج بوش الإبن منذ ست سنوات ، وكرر وعده هذا في أنابوليس ، وها هي فترة ولايته الثانية قد شارفت على نهايتها ، وما زالت هذه الدولة في غياهب رحم الغيب السياسي ، وليس ثمة ما يلوح في الأفق أن وعده له رصيد على أرض الواقع .

إن الحقيقة الوحيدة على أرض واقع القضية الفلسطينية ، تتمثل في تسرطن التدرن الإستيطاني في كل جزء من أجزاء الأرض الفلسطينية . وإذا ما أضفنا إلى هذا الواقع مسلسل الإجتياحات العسكرية ، والإغتيالات ، والإعتقالات ، والحصارات ، والحواجز ، والأطواق الأمنية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الحياة الفلسطينية ، فإن المشهد الفلسطيني تظلله غمامات قاتمة من الشكوك في مصداقية الطرف الإسرائيلي الذي برهنت التجارب مرارا وتكرارا أنه غير ناضج لتقبل سلام حقيقي مع الفلسطينيين .

كلمة لا بد منها ، لقد ظلت السياسات الإسرائيلية على مدى عقود طوال ، وفيما يخص القضية الفلسطينية حبيسة المطامع الإستيطانية القائمة أصلا على اغتصاب الأرض الفلسطينية التي هي أهم عنصر من عناصر الوجود الفلسطيني . إنها سياسات قائمة على حق القوة ، ولا تمت إلى قوة الحق بأية صلة كانت .

إزاء هذه التحديات الإستيطانية الخطيرة التي تتهدد الوجود الفلسطيني على أرضه ، وفي وطنه التاريخي ، فإن الفلسطينيين الذين ناضلوا وما زالوا يناضلون من أجل تحريرهم وحريتهم وسيادتهم وحقهم المشروع في تقرير مصيرهم ، يصرون على أن ثوابت قضيتهم المشروعة خط أحمر ، لا يجرؤ أحد كائنا من كان أن يتجاوزه تحت أي ظرف من الظروف ، ومهما طال الزمن ، حتى يأذن الله ، ويأتي الفرج من عنده . وإن غدا لناظره قريب .
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية