إن القاعدة الأولى لفهم أي مجتمع تنطلق من فحصنا الدقيق لتطابق النظري مع الواقع في حياة هذا المجتمع كما يقول "دانيل إنيراريتي" أستاذ الفلسفة في جامعة ثاراغوثة في اسبانية، ولعل هذه القاعدة الذهبية تساعد الكثيرين منا "أهل" المنطقة العربية في البدء في قراءة واعية متبصرة للأحوال المزرية للانسان والمجتمعات اليوم، هذه الأحوال التي بلغت حدا ً من الانحطاط والفوضى والمفارقة بين النظري والواقعي،
جعل المنطقة تعاني من نوع من الركود المستنقعي من الناحية الانسانية والفكرية والأخلاقية، ثلاثة نواح بالغة الخطورة في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم، الأخطر منها هذا الإصرار المعيب الذي يعانيه كثيرون منا على أن المسؤول الوحيد عن كل مانعانيه إنما هو الأوضاع السياسية المتمثلة في المشجب ثلاثي الرؤوس الذي اعتدنا أن نعلق عليه كل مشكلاتنا : الحاكم والمستعمر واسرائيل. فماهي حقيقة مسؤولية هذه الجهات الثلاث عما نعانيه من امراض متجذرة في النفوس والعقول والمجتمعات ؟!.. إنه السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا لدى كل محاولة لفهم ملابسات حياة الانسان والمجتمع في هذه المرحلة شديدة الخطورة في حياة الأمة.
هذه الأوضاع الإنسانية المعيبة التي نعيشها وهذه الأمراض الاجتماعية التي تنخر في حياتنا والتي يصفها أحد كبار القياديين والمفكرين الاسلاميين بأنها وصلت بالأمة إلى "الحضيض" وهو ينعي باللائمة ومباشرة وفقط على حكامنا، فهم المسؤولون -من وجهة نظره- عن كل ماتعانيه الأمة جملة وتفصيلا، وقد عاد بي هذا الأمر الى دراسة للباحث في الدكتوراه "كامل عبد الفتاح" درس فيها الاصلاح الاجتماعي في مشروع الكاتب والمفكر الاسلامي الكبير الشهيد سيد قطب، تحدث فيها الباحث عما سماه "التوصيف الدقيق" الذي قام به قطب لمشكلاتنا وعن الحلول التي وصفها الباحث ب"المنطقية" والتي طرحها سيد قطب لبعض مشكلاتنا منذ أكثر من نصف قرن والتي تستند بطبيعة الحال إلى فهم قطب للكتاب والسنة ! والتي وعلى الرغم من توصيفها بالدقيقة والمنطقية لم نر لها آثارا تكاد تذكر على مجموع الأمة في المنطقة العربية آخذين بعين الاعتبار - وبعكس كل مايقوله الاسلاميون - كل ماتمتع به الفكر الاسلامي في بلدان المنطقة من دعم شعبي تارة وحكومي تارة أخرى، وكل ماعاشته الجماعات الاسلامية من مدود وجزور أهلتها مع الزمن للتمرس في ممارسة اللعبة الشعبية الجماهيرية بما يعني ذلك من قدرة على الوصول الى الجماهير -وباسم الاسلام المتأصل في حياة الأفراد والمجتمع والأمة- بطرق شتى بدءا من الكتاب والمجلة الاسلامية وخطبة الجمعة وصولاً إلى النكتة والرأي وتناقل أخبار الألم والمحنة من فم الى فم في مجتمعات تأخذ الأخبار المتداولة شفهيا فيها دور الأبواق الإعلامية الرنانة.
هذا عن المشروع الاسلامي، فاذا ماقمنا بجولة خاطفة كذلك في المشروع العربي اليساري بكل أطيافه لوجدنا آلاف المقالات والكتب والأطروحات التي وصّفت بشكل كاف مشكلاتنا الاجتماعية ووضعت لها الحلول المستوردة من "النظرية الماركسية" -بشقيها الشرقي والغربي- بغية تخليص المجتمعات في المنطقة العربية من كل هذا الحجم من الركام العفني الذي ارتكس بالانسان خلال القرن الماضي، ولكنها وعلى الرغم من قوة السلاح الذي حكمت به كثيرا من بلدان المنطقة في تلك الفترة، وسطوة الإعلام وأبواقه المتفردة في صياغة الرأي العام العربي، وسلطة التربية والتعليم التي امتلكتها الأحزاب اليسارية في كثير من دولنا، على الرغم من كل هذه السلطات مجتمعة – وباسم سلخ الشعوب عن الأفيون الديني الذي يفتك فيها ويكرس تخلفها - لم تستطع ولاحتى داخل صفوفها أن تغير الكثير من تلك الآفات العالقة بالشخصية الانسانية في منطقتنا !، السؤال الثاني الذي يطرح نفسه بقوة في هذا السياق : لماذا فشلت كذلك هذه الحركات الاجتماعية السياسية بشقيها الاسلامي واليساري في إحداث تغيير إنساني اجتماعي شامل في الإنسان والأسرة والمجتمع، ولماذ بقيت وبعد نصف قرن من نشوئها وجهادها وعملها الدؤوب عاجزة تماما عن الوصول إلى أهدافها الاجتماعية والانسانية ؟!
كم هو مؤسف مانراه اليوم في ظل هذين السؤالين من تغييرات شاملة في الخطابات السياسية والإعلامية الرسمية وغير الرسمية الموجهة الى المجتمعات في المنطقة العربية ؟!، والتي ماكنا نحلم برؤيتها قبل غزو العراق ؟! كم هو مؤسف ومخجل هذا الانبطاح الاعلامي الاجتماعي الذي مازال وعلى الرغم من توجهاته لحل مشكلة الانسان والمجتمع عاجزا عن حل مشكلات الانسان والمجتمع في هذه المنطقة المنكوبة بإنسانها كما بحكامها. وهنا نجد السؤال الثالث الذي يجب أن يفرض نفسه : ماهي درجة مسؤولية "المواطن" نفسه عن هذا التقهقر الاجتماعي الذي نعيشه وماهي درجة مسؤولية الحاكم عن ذلك؟ التقهقر الذي يتجلى بأوضخ صوره في أوضاع الأطفال والنساء في المنطقة وفي أحوال الشباب وفي العلاقات السائدة داخل الأسرة الواحدة وفي شبكة العلاقات الفوضوية الهائلة الممتدة في نسيج المجتمعات بما يتعلق بالحقوق والواجبات في منطقتنا هذه.
إذا كانت السياسات الاجتماعية تعرف بانها القوانين والممارسات التي تقوم بها الحكومة وتؤثر عن طريقها في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد ومجتمعهم، فلماذا لم تستطع مجمل حكومات المنطقة العربية التأثير في المجتمعات على الرغم من أن الملايين كانت قد أنفقت خلال النصف الثاني من القرن العشرين على هذه السياسات الاجتماعية ؟؟ يقول أحد كبار علماء الاجتماع "نيكلاس لوهمان" : إن السياسة ينبغي أن تَفهم أن علاقتها بالمجتمع يجب أن تكون علاقة تلقٍ وتعلمٍ وليس علاقة فرضٍ وتعليم، فالسياسة -والكلام مازال للوهمان- يجب أن تكون مرآة للمجتمع، وواجبها أن تعمل على رسم المعالم الضرورية لبناء مستقبل جماعي للأمة.
مستقبل تفهمه الأمة وترضاه الأمة وتريده الأمة، ولعل في هذه النتيجة وحدها مفتاح الحل لمعضلة الانسان والمجتمعات في المنطقة العربية، ثلاثة أسئلة علىغاية من الخطورة نطرحها على هذا الإنسان بنخبته المثقفة اليوم، ولهذه المجتمعات بقلقها الدائب على هامش غزو العراق، ولهذه الأمة بكل مايغلي فيها اليوم من تيارات وإرادات للتحرر والخلاص على كل المستويات، والتي ضاعت مائة عام في سرداب القهر الاجتماعي والظلم السياسي تبحث فيه عن مخرج.
-يتبع-